IMLebanon

ماضي لبنان الحاضر أبداً

 

شيء من تاريخ لبنان: مرة أخرى تثبت الطبقة السياسية اللبنانية عجزها عن «العبور إلى الدولة». عجز يعود تاريخه إلى تمسك زعمائها بـ «الصيغة الفريدة». صيغة ابتكرها العثمانيون عندما وزعوا الحصص على الطوائف في المتصرفية، بعد الحرب الأهلية عام 1864. ما زال هؤلاء الزعماء يعيشون في القرن التاسع عشر. حينها كانت إسطنبول توزع المناصب وتبيعها إلى من يدفع أكثر مقابل لقب باشا أو بيك. وبعد تلك الحرب، فرضت أن يكون المتصرف مسيحياً غير لبناني، وذلك خضوعاً للضغوط الأوروبية. ولا بد من التذكير، في هذا المجال، بأن المتصرفية شملت قرى الجبل، أي كانت تتناسب مع التكوين الاجتماعي العشائري لهذه المنطقة، ولم تشمل المدن الساحلية.

 

 

وعندما سقطت الدولة العثمانية وانتدبت فرنسا لإدارة الحكم في لبنان وسورية رأت باريس أن الجبل في حاجة إلى موارد فألحقت به البقاع والجنوب والمدن الساحلية في ما عرف بلبنان الكبير الذي ما زال قائماً حتى الآن، وقد انتقل الوعي الريفي البسيط من المتصرفية إلى الدولة، فاستمر الصراع القديم الذي أسفر عن نزاعات وحروب أهلية متتالية ما زلنا نعيش تبعاتها حتى اليوم.

 

كان ولاء الزعماء اللبنانيين للسلطنة العثمانية في القرن التاسع عشر، ثم تحول إلى فرنسا في القرن العشرين، ودخلت أميركا على خط الاستتباع في ما بعد. وكما كان اللبنانيون منقسمين في الموقف من السلطنة حتى بعد سقوطها، استمروا في ولائهم لفرنسا ثم الولايات المتحدة في ما بعد، وما زالوا، خصوصاً أن الإقليم كله منقسم بين محورين أو تحالفين، تقود أحدهما واشنطن، وتتزعم روسيا وإيران الثاني المعروف بمحور المقاومة.

 

هذه لمحة بسيطة عن تاريخ لبنان وتكون طبقته السياسية الإقطاعية التي يتوارث بعض رموزها الزعامة أباً عن جد (وليد جنبلاط). أما الذين اخترقوا هذه الطبقة من البورجوازية الحديثة وأمراء الحرب فسرعان ما شكلوا إقطاعهم الخاص (سمير جعجع)، متخذين من الدين والطائفة والمذهب حصناً يتقوقعون داخله، زاعمين تمثيل أبناء ملتهم والدفاع عنهم في مواجهة الآخرين. وهم ليسوا سوى جماعة من «البلوتوقراط» بنوا نفوذهم بسلطة المال العام الذي اشتركوا في نهبه مع نظرائهم من الطوائف، ووزعوا بعضه على أزلامهم. من هنا كانت المنافسة على الحصص في السلطة التنفيذية، وتأخير تشكيل الحكومات إلى أن يتم الاتفاق على تقاسم المغانم بين زعماء الطائفة الواحدة من جهة، ثم بينهم وزعماء الطوائف الأخرى. ولا يكتفي المتنافسون بالاستقواء بطوائفهم وبشد عصبياتها، بل يلجأون إلى الخارج القريب أو البعيد، ويتبارون بإظهار قوتهم الداخلية لجلب أكبر قدر من الدعم المالي والسياسي فيحولون البلد إلى ساحة يستبيحها الأقوى والأكثر نفوذاً. والطريف أنهم يتباهون بهذه العلاقات (إقرأ العمالة) ويعتبرونها انفتاحاً على العالم وشطارة في العلاقات العامة. وقد شكلوا طبقة من الفاسدين كل شيئ لديها قابل للمتاجرة والمقايضة. الحرية لدى هؤلاء تعني المزيد من التبعية. السيادة ارتهان للخارج. القوقعة انفتاح. المحاصصة وسيلة للسرقة. الرطانة بالعروبة غطاء للعمالة. الفساد قيمة أخلاقية. الحرص على النازحين السوريين أحد أبواب الكسب المالي بمشاركة ما يسمى المجتمع المدني والأمم المتحدة، فضلاً عن استخدامهم ورقة سياسية في لعبة المحاور.

 

هذا بعض من ماضينا وحاضرنا. ثم يحدثونك، رافعين بنادقهم، عن الفقر والدين العام، وعدم وجود الكهرباء، والقمامة في الشوارع، والموت على أبواب المستشفيات، وانتشار الأمراض، والبطالة… والبطولة والعبقرية و «بلاد الانتشار»، و «سويسرا الشرق».

 

كان عبقرياً إدوار حنين عندما قال في أوج الحرب الأهلية: «لبنان كلما استتبع اعتز وكلما استقل اهتز».