IMLebanon

السياسة تُطعم بدل الخبز ألماساً وطائرات خاصة

 

سياسيّو لبنان أوادم أم زعران؟

 

 

قاد في العام 2005 سيارة بيجو بابها الخلفي “مبعوج” ويطمح اليوم الى قيادة البلاد ومن فيها! هو سياسي لبناني جمع في أقل من عقدين أكثر من ملياري دولار بكثير. فهل السياسة في بلادنا تجلب المال أم أن للمال مصادر أخرى منظورة وغير منظورة؟ وهل هناك سياسي آدمي وسياسي غير آدمي؟ وإذا كان هناك من سمّى (ممن سألناهم) كميل شمعون والياس سركيس رئيسين آدميين… فهل هناك من يجرؤ أن يسمي أكثر السياسيين غير الآدميين في لبنان؟

 

كل شيء يسير في “سويسرا الشرق” في المقلوب، رأساً على عقب، وكلما ازداد الوضع سوءاً ازداد الخيال حدّة وراح يسرح كثيرون في سيَر من يُمسكون البلاد والرقاب الذاتية. لكن، مع كل اسم يصدر من سياسي عن “سياسي غير آدمي” تمنٍّ: لا تذكروا على ألسنتنا أسماء السياسيين غير الأوادم! لعلّ مشكلة الكثيرين، حتى هذه اللحظة البائسة، انهم ما زالوا لا يجرؤون أن يقولوا للأعور: أعور! فهناك حكم الزمالة وأحكام أخرى كثيرة خاصة!

 

“كلفة العهر السياسي يدفعها دوما المساكين”. هذه مقولة لكن صحيحة. فنحن، اللبنانيين، اختبرناها ولا نزال.

 

اللواء عصام أبو جمرا، رأيناه قبل أشهر قليلة يقف في الصفّ، بين كثيرين، في انتظار أن يصل دوره ليحصل على لقاح كوفيد19. هو لواء آدمي. ووزير آدمي. ولبناني، أباً عن جد، آدمي. هو اليوم في منزله في بعبدا ينتظر “الفرج”، مثله مثل جميع اللبنانيين، بعدما بات “حتى ما يتوافر من طعام فاسداً” ويخبر “البارحة (يوم الأحد) تناولت دجاجاً فلم أنم طوال الليل”. هل هذا معناه أن اللواء يائس كما كل الآخرين؟ يجيب “هناك ليل ونهار والتغيير لا بُدّ آتٍ فلنأمل أن يكون صالحا”.

 

فلنعد الى موضوعنا. هل السياسة تُطعم بدل الخبز ألماسا وطائرات؟ هل السياسي هو الشخص الذي يتحول ثرياً ويُراكم الأموال والعقارات؟ يجيب “السياسي يكون لديه معاش محدد من الدولة اللبنانية ويُفترض أن يكفيه لكن إذا أراد أن “يدوبل” (يضاعف) معاشه، في شكلٍ ملتوٍ، يكون مجرماً سارقاً أزعر”.

 

أبو جمرا: خرجتُ كما دخلت

 

يغوص اللواء في تجربته: “أنا شغلت، منصب نائب رئيس حكومة طوال خمسة أعوام، كما شغلت خمس وزارات بينها الكهرباء والهاتف، وأدخلت كثيرين الى “الحبوسة” وجعلت العاملين يشتغلون “متل الساعة” لكنني خرجت مالياً كما دخلت. والوزير لا معاش تقاعدياً له، مثل النائب أو نائب رئيس الحكومة، لذا هناك وزراء كثيرون يفكرون حين يشغلون منصباً معيناً بما سيؤول إليه وضعهم بعد أن يخرجوا فيسرقون”. والحل؟ يُفكر اللواء المتقاعد بحلٍّ الى الوزراء ذات “الأيادي الطويلة” ممن يخلطون بين مصالح الأمة ومصلحتهم الخاصة حرصاً على مستقبلهم بعد ان يغادروا. فماذا في هذا الحلّ؟ يجيب: “ربما بتخصيصهم بمعاش تقاعدي أسوة بالنواب”. لكن، هناك سياسيون نواب “أياديهم” أيضا “طويلة”؟ يجيب: “إذاً علينا التفكير بحلول أخرى”.

 

يتقاضى النائب 12 مليونا و750 ألف ليرة شهرياً، وهو ما يعادل سنويا (بعد زيادة 2,7 مليون شهريا من صندوق التعاضد) 32 مليون و400 ألف ليرة. وإذا انتخب لثلاث دورات وأكثر ينال بعد خروجه من الدورة النيابية 11 مليوناً و475 ألف ليرة كمخصصات شهرية، أما إذا خرج بعد دورتين فينال 9 ملايين و945 الف ليرة. وينال النائب المنتخب لدورة واحدة 8 ملايين و415 الف ليرة. هذه المبالغ كانت لها قيمة كبيرة وكان كثيرون “يمدون الأيدي”، وعفواً من الأوادم، الى المال العام. فكيف الحال اليوم؟

 

شربل: يعيش على المعاش

 

حال وزير الداخلية السابق العميد مروان شربل ليست طبعاً أفضل. وهو المصنّف آدمي. ويقول: “الحراميي” في كل مكان لا في السياسة وحدها. فهناك أشخاص في كل مكان “أنفسهم كبيرة” ولو رأوا أمامهم المليارات وهناك أشخاص خسيسون، بلا ضمير، في كل مكان. وهناك سياسيون أغنياء منذ ما قبل دخولهم المعترك وهناك من أتوا على “قد الحال” وباتوا أثرياء”. ماذا عنه؟ هو أمضى 38 عاما في السلك العسكري ويوم تقاعد قبض تعويضه، وتراوح بين 350 و400 مليون، زائد معاش تقاعدي، وهو حوّل قسماً منه الى الدولار، والمبلغ مجمد اليوم في البنوك. ويعيش على المعاش التقاعدي الذي يعادل حسب سعر السوق اليوم 250 دولاراً. والبارحة قال للعاملة الأجنبية في منزله: خذي 5 ملايين ليرة و”شوفي شو بدك تطعمينا”.

 

يحك مروان شربل رأسه ويخرج بأسماء سياسيين أوادم: “كميل شمعون والياس سركيس. فالأول وجدوا في حسابه في البنوك أقل من 300 الف دولار (على ما يتذكر) فكيف لوزير اليوم ان يزيد حسابه المصرفي عن ملايين الدولارات؟ حقا هو أمر مثير للإستغراب. وليس الفاسد في عالم السياسة هو من سرق فقط بل من استخدم موقعه لإجراء خدمات خاصة او لتعزيز تجارة انخرط فيها وليُنشئ شركات “أوف شور” يتهرّب فيها من الضرائب”.

 

وما أكثر السياسيين الذين فعلوا ذلك.

 

مصلحة الناس أوّلاً

 

الدكتور عبد الرحمن نزيه البزري آدمي آخر. هو طبيب محبوب ونشيط ومحارب في مواجهة كوفيد19 ومتحوره الآتي. فما رأيه في مكائد السياسيين في حق لبنان واللبنانيين؟ يجيب من الآخر “لا محل للأوادم في السياسة. فمن يعتنقها يبحث غالباً عن مصالحه فيها قبل مصلحة كل الآخرين. فهم يضعون الناس على طوابير الذل بسبب أخطائهم”.

 

ماذا اعطت السياسة عبد الرحمن البزري؟ يجيب حاسماً “لا شيء أبداً، لكني من الناس، لذا أشعر بأنني مجبر بهم وملزم بمساعدة أهلي وبلادي ومنطقتي. وجدتُ نفسي في “المعمعة السياسية” لكني راضٍ عن كل ما فعلته فيها. وأنا طالما اقتنعت أن الوصول الى موقع سياسي يفترض أن يكون لمصلحة الناس ولا أحد غير الناس. وآمنتُ دائما أنه إذا نجحت في ذلك يكون حراكي قد أعطى ثماره وإذا لا، أكون قد حاولت. فمن اجتهد وأصاب له أجران ومن لم يصب له أجر واحد”.

 

 

 

وزراء وزراء

 

نعود الى اللواء عصام أبو جمرا الذي يقول “ما تواخذيني يُصبح الإنسان الذي يخوض العمل السياسي مرة ملزماً بها وبالمحافظة على مستوى معيشة معين، فبعدما تطير الحكومة ويطير الوزير يبقى مقصداً وعليه ان يتجاوب مع المواطنين ويفتح بيته دائما”. ويستطرد “السياسة تعادل الشطارة ومن يسرق أكثر يكون “شاطراً” أكثر. فالسرقة من ادوات السياسي. وكل واحد يريد أن يأكل أكثر من سواه. والباب دائما مفتوح، فيه تحايل وخداع. وهو أمر لم أستطع الإنخراط فيه يوماً والحمدلله. فأنا خرجت من السياسة بمعاشي من المؤسسة العسكرية وهو يعادل 500 دولار أدفع نصفه للخادمة. فأنا مضطر أن أحتفظ بها كون زوجتي توفيت وأحتاج الى مدبرة منزل”. ويتذكر “يوم ذهبتُ الى بغداد لطلب مساعدة الى الحكومة العسكرية التي ترأسها ميشال عون (رئيس الجمهورية الحالي)، بعدما قُطعت عنا المعاشات، يومها قال لي صدام حسين “حمّل” ما تريد فقلت له: لن أحمل المال. فأرسل 30 مليون دولار الى القصر الجمهوري وعلمتُ لاحقاً أن الرئيس عون سجل 15 مليون دولار باسم زوجته وشقيقها”.

 

ما تفسير فخامته؟ سؤالٌ يبقى مطروحاً. الأمر كان ضروريا يومها؟ ربما، لكن ماذا عن المبلغ الآن؟

 

هناك أشخاص “شطار” في السياسة، وهناك سياسيون أتوا وعادوا وغادروا كما أتوا. هناك سياسيون يُقسّطون، مثلهم مثلنا، بيوتاً متواضعة. وهناك سياسيون يثقون بمقولة “خبزنا كفاف يومنا”. لكن، حين يسمع اللبنانيون سياسياً يتحدث عن “فلس الأرملة” وهو يتنعم بطائرات خاصة يشعرون بقهر إضافي على القهر الذي هم فيه. فهل السياسة اليوم هي التي تغيّرت أم السياسيون هم من تغيروا؟ سياسي مخضرم يتحدث عن سياسة أيام زمان ويقول “ثمة نوستالجيا وحنين دائم الى سياسيي جيل الأربعينات. كان جيلاً ناضجاً سياسياً ويملك ثقافة عالية بينما جيل السياسيين في العقدين الماضيين بات (حتى) لا يقرأ. والثقافة السياسية كما تعلمون لا تكتسب عبر الإنترنت. سياسيو اليوم ما عادوا كما حالهم ايام بشارة الخوري. فالحكماء كانوا مثل القماشة القديمة، مثل السجاد العجمي، كلما مرّ عليهم الزمن باتوا اكثر أصالة، اما جيل السياسيين اليوم فبات “نايلون”. فلا خبرة عند كثيرين منهم ربما لأنهم لم يمارسوا الديموقراطية الحقيقية. زمن الاستقلال كان لدينا عباقرة. الرئيس كميل شمعون كان ادهى الدهاة لكن كان عنده خط أحمر هو الدولة”.

 

ماذا وراء سور السراي؟

 

نقرأ في أموال الساسة في لبنان فنتفاجأ. نسمعهم يتحدثون عن “فقر حال” نتعجّب قبل أن نعود ونتذكر أن الفقر ليس في المال دائماً فبعض السياسيين في بلادنا فقراء في الأخلاق. وما يثير كل علامات التعجب أكثر من كل ذلك أن كلهم يتحدثون عن “السياسيين الأوادم” الذين يحتاج الى خاماتهم لبنان. لن نُكرر ما قالوه لكننا سنكتفي بما قاله الراحل الياس الرحباني قبل أعوام من رحيله وهو يراقب بحزن حال البلد “المطلوب سياسيون أوادم ليحكموا الأرض بعدل وسلام”.