حذر رئيس البرلمان اللبناني نبيه بري من انهيار اقتصادي خلال أسابيع لا أشهر، ورأى أن تفادي الانهيار يكون بالإسراع في تشكيل حكومة ووصول المساعدات التي أقرها مؤتمر (سيدر) في باريس الذي ربطها باقرار إصلاحات تمنع الفساد. ليس الأمر صعباً، يقول بري، ففي إمكان البرلمان إقرار القوانين الاصلاحية المطلوبة في جلسة واحدة.
بري يتعجل عادة تشكيل الحكومة، لكنه هذه المرة يضع يده على الجرح اللبناني النازف: الاقتصاد. ويوافقه في ذلك الزعيم السياسي وليد جنبلاط الذي دعا الى التقشف حتى بعدما تصل تقديمات (سيدر)، وحذر بدوره من شلل تام إذا استمرت زيادة الأعباء المالية تبعاً للتأخر في تشكيل الحكومة.
لا بري ولا جنبلاط معروفان كمرجعين في الشأن الاقتصادي، لكن كلامهما في هذا الشأن وسكوت المعنيين يفيدان بأن الأزمة الاقتصادية استفحلت ولم يعد مجدياً وضع خطط للاصلاح ، وإن كانت متوسطة الأمد. واللافت أن تحذيري بري وجنبلاط لم يؤديا الى استنفار الرأي العام للضغط من أجل تشكيل الحكومة، على الأقل ، فـ»الجماهير» اللبنانية منصرفة باهتمام الى صراع زعمائها حول المقاعد الوزارية للحصول على خدمات هذه الوزارة أو تلك، أو منع خصومهم السياسيين من ذلك. الواقع المؤسف هو أن الزعامات السياسية لا تزال تسيطر على الرأي العام وتستتبع معظم الاعلام الذي يتواصل معه، وفي المقابل، يبدو المجتمع المدني مهمشاً أكثر من أي وقت مضى.
قال صديق عربي محب للبنان إن اللبنانيين إذا لم ينقذوا أنفسهم فلا أحد يهتم بإنقاذهم هذه المرة، وإن من يتابع يوميات الكلام السياسي اللبناني يتذكر خلافات أهل القسطنطينية على جنس الملائكة فيما كان السلطان محمد الفاتح يحكم الحصار على مدينتهم ويتهددهم بالخراب والاحتلال. ويستدرك الصديق العربي بأن وضع اللبنانيين اليوم أسوأ من وضع أهل القسطنطينية قبيل احتلالها، فأهل المدينة كانوا شعباً واحداً يستهتر بمصيره، أما اللبنانيون فتشغلهم عن المصير المشترك مشاعر تغلّب الانتماء الطائفي على الانتماء الوطني، وتتوهم أنهم لدى وقوع الانهيار الاقتصادي سيجدون حضناً دافئاً لدى زعيم الطائفة أو تنظيمه القابض على مجتمعهم الصغير. يتوهم هؤلاء أنهم ينتمون الى مجتمع راهن هو لبنان ومجتمع بديل جاهز هو الطائفة، وفي ذلك تبدو ذاكرتهم ضعيفة إذ تغيب عنها وقائع غير قديمة أثبتت بأن الزعامة الطائفية ليست الحضن البديل، وأنها تترك تابعيها الى مصائرهم المجهولة حيث يتدبرون أمورهم بلا مرشد ولا معين.
وبلغ الأمر ببعض السياسيين الجدد الى «الفخر» بالانهيار لا التخوف منه، لأنه يحدث، في رأيه، لدى الأمم العريقة والحية، مثل اليونان والارجنتين، وسيكون لبنان قادراً كما كانتا قادرتين على تجاوز الانهيار نحو آفاق أرحب اقتصادياً وسياسياً، وبالتالي حضارياً، كلام للفخر لا للسياسة ولا للاقتصاد، وهو يضمر صورة للبنان تشع على المحيط الجغرافي الذي يحرص على ديمومتها وإقالتها من العثرات. والحال أن لا أحد يضع لبنان في أولوياته، عدا جهات دولية تهتم باخطار الهجرة وتسعى الى الحدّ من النفوذ الإيراني على الشاطئ الشرقي للبحر المتوسط عبر «حزب الله». وحتى المساعدات المقررة للبنان في (سيدر) تبدو اليوم جاهزة لتحويلها الى دولة أخرى أو مجال اقتصادي آخر ترتئيه الجهات المانحة.
وبالعودة الى تشكيل الحكومة وإقرار الاصلاحات فإذا تحققا تباعاً، وهذا ما يجمع عليه السياسيون على رغم اختلافهم، فهناك شك في أن تكون الحكومة الجديدة قادرة على تجاوز أخطاء سالفتها لناحية التقشف أو الحد من الفساد، فالقيادات المتصارعة تبحث في الحقيقة عن كنوز السلطة لا عن مسؤوليات صعبة في حكومة تتحرك باموال القروض. ويبدو حكام لبنان اليوم محاصرين من جهتين، الضغط الدولي والإقليمي لمنع انفجار اجتماعي (بالتالي عنفي يعزز الإرهاب) وضغوط المواطنين الاقتصادية على رغم ولاء غالبيتهم الأعمى للزعماء «المقدسين». هذا الحصار المزدوج هو ما ينتظر الحكومة الجديدة عندما تتشكل وتبدو للعالم أنها غير جديدة أبداً.