عطفاً على مقالي السابق الذي يحمل العنوان المشار اليه اعلاه والذي نشر في “النهار” في العدد الصادر في 20 آب 2014 والذي لاقى تأييداً من بعضهم واعتراضاً صارخاً من بعض آخر واكمالاً له وتوضيحاً اطرح السؤال الآتي:
أيهما أفضل للدولة اللبنانية، الفراغ الواقعي والمقنّع في رئاسة الجمهورية ومجلس النواب – حتّى لو مدّد له – وتبعاً لذلك مدّد للحكومة أيضاً، ذلك الفراغ الذي سيدوم ويدوم… ويؤدي بالدولة الى “الكوما” لا محال والى الفوضى الشاملة والتناحر الخطير بين فئاتها المختلفة غير اللاحمة بعضها على بعض، إذ إنّ فيها فئة قوية ومسلّحة أكثر من الدولة، هي “حزب الله” وحلفاؤه، مصممةً نهائياً على عدم التزحزح عن تحقيق أهدافها التي لا تلتئم وأهداف الآخرين، وهكذا تبقى الدولة مشلولة، ولكنها موجودة ظاهرياً تتحرك قليلاً، ما يوهم الناس أنها لا تزال على قيد الحياة وما يحول دون امكان المجتمع الدولي التدخل فعلياً للحفاظ عليها، على رغم انها من أوائل الأعضاء في الأمم المتحدة، وعلى رغم ان ممثلها آنذاك الدكتور شارل مالك والبروفسور René Cassin والسيدة أليانور روزفلت كانوا قد نظموا قانون حقوق الانسان الذي اعتمدته الأمم المتحدة وصادقت عليه.
أم أنّ الأفضل للبنان، الفراغ المعلن رسمياً والمؤدي تبعاً، الى زوال تلك الدولة الفاشلة، التي يتآكلها الفساد والهريان، ما يتيح عندئذٍ للمجتمع الدولي ان يتدخل إلزاماً لإنشاء دولة بديلة مختلفة بتركيبتها وقابلة للحياة بسلام وازدهار!….
الحقيقة انني استمعت آخر شهر آب الى خطاب الرئيس السنيورة الجميل والبديع الذي ألقاه في اوتيل Le Gabriel في الأشرفية لمناسبة الاجتماع الذي عقدته قوى 14 آذار فأثلج خطابه صدري وسررت به كثيراً، بل وسكرتُ به، ولكن، ما إن صحوت من السكرة حتى آتتني الفكرة العقلانية فوجدت ان خطابه بعيد عن الواقع المعيوش على الأرض وليس هو إلا الأمل في غدٍ أفضل لا يعلم إلاّ الله متى يتحقق، وكذلك حصل معي لدى سماعي خطاب الرئيس نبيه برّي البديع أيضا الذي ألقاه لمناسبة ذكرى اختفاء الإمام موسى الصدر ورفيقيه في ليبيا، وما صحوت من سكرتي حتى رحت أتأمل في الواقع المعيوش المختلف عما سمعت.
ذلك أنه في الحقيقة هنالك مسلمون كثر في كل البيئات الاسلامية معتدلون يتفهمون الحياة وسرها، ولكن لا يوجد إسلام معتدل، فالإسلام أصولي وهو دين ودولة في وقت واحد ويجب درسه وتعلمه في القرآن الكريم – (مثلاً سورة التوبة رقم 9 ) – والقرآن منزل من ربّ العالمين على رسوله، كما يقال، ولا مجال لتغييره أو مخالفته.
وقد ألمح من بعيد الى هذا الواقع الدكتور جعجع بصوته المألوف مردداً مراراً من “إذاعة لبنان الحر” مخاطباً جمهوره قائلاً له: لا تخافوا، لا تخافوا، لقد تعرضنا مرة كل عشرين سنة خلال تاريخنا الطويل الممتد على ألف وخمسماية سنة لـ”دواعش” أو ما يشابهها ودافعنا عن أنفسنا دفاعاً قوياً وما زلنا موجودين في لبنان فاعلين وأحراراً، أما المسيحيون في باقي الدول العربية فقد قلّ عددهم نتيجة للاضطهاد وأصبحوا ذميّين.
أما مقررات 14 آذار التي تلاها المنسق العام وخلاصتها المطالبة بالدولة الديموقراطية المدنية العادلة مع الحرية والمساواة واعتماد الكفاية وفصل الدين عن الدولة، والتي يوافق عليها طبعاً كل المسيحيين مبدئياً، فإن ذلك يلزمه الموافقة عليها رسمياً وعلناً من اجماع المسلمين وكل المفتين والأئمّة والعلماء من الشيعة وأهل السنة !… وهو أمر بعيد المنال في المستقبل المنظور.
أما رئاسة الجمهورية التي أصبحت شاغرة أو فارغة منذ 25 أيار الماضي والتي لا يبدو حتى الآن ان هنالك أملاً أن يملأها من أي مسيحي والتي يقال إنها رأس الدولة، وإنها اذا ما تأمّنت فإن لبنان يصبح بألف خير، فمن الملاحظ أن رئاسة الجمهورية كان دائماً يشغلها مسيحي ماروني، ومع ذلك فإن الحرب الأهلية دامت ست عشرة سنة ولم يستطع رئيس الجمهورية الحؤول دون نشوبها.
وتقديري أنه، حتى لو تبوّأ سدة الرئاسة الدكتور جعجع، وهو رجل شجاع قوي ومهاب في الماضي والحاضر ويعرف ماذا يريد وما لا يريد، فإنه لا يستطيع اجتراح المعجزات، لأن الاضطراب الأمني سوف يتفاقم أكثر فأكثر، على أن الرئاسة تمكنه ربما من السعي الى معالجة آمرين مهمين:
الأول، اجراء الحوار الواضح والصريح من موقعه الرسمي والشرعي مع “حزب الله” لمعرفة ما اذا كان يقبل بالخروج من سوريا وبتسليم الدولة سلاحه مع تحديد تاريخ التنفيذ، وتقديري أن الدكتور جعجع لن يصل هنا الى أية نتيجة إيجابية، وعندئذٍ يستطيع من موقعه المشار اليه أن يطلب من “حزب الله” أن ينشئ دولة منفصلة ومستقلة في الأماكن التي يسيطر عليها مع حركة “أمل” أو أن يضمها الى دولة أخرى.
والأمر الثاني، هو الطلب عندئذٍ من موقعه الرسمي الى الأمم المتحدة مساعدته على إنشاء دولة لبنانية ليس فيها، إلاّ من يحبّها ويؤمن بقيمها السامية، وبأنها وطن نهائي لجميع أبنائها وتنتهج الحياد التام.
وحدها الحقيقة تنجي ولا تُبنى الأوطان على الغش والخداع والمجاملة، ولا على الكلام السياسي المنمق البعيد عن الواقع، بل على التاريخ الأكيد والواقع السوسيولوجي الحيّ والصحيح.
هذا ما اقتضى بيانه من قولي بأن خلاص لبنان سيأتي من الفراغ.
عضو المجلس الدستوري الأسبق