IMLebanon

مَقعد لبنان شكلي جداً جوهري جداً

تشْبه مشاركةُ، بل إشراكُ، لبنان في مؤتمر فيينا الدولي الإقليمي لبحث الأزمة السوريّة الطاحنة والذي عقد جلسته الأولى يوم الجمعة المنصرم في 30 تشرين الأول 2015 في فيينا… تشبه هذه المشاركةُ مشاركةَ لبنان في الجلسة الأولى من مؤتمر مدريد لبحث السلام العربي الإسرائيلي في 30 تشرين الأول عام 1991.

مرّت 24 سنة كاملة بين المؤتمرين. كلتا المشاركتين اللبنانيّتيْن كانتا شكليّتَيْن من حيث مدى قدرة الدولة اللبنانية على التأثير في الموضوع الأصلي المعلن لكل من المؤتمرَيْن. مدريد موضوع السلام وفيينا موضوع سوريا. لكنّ المشاركةَ الشكلية كانت جوهرية من حيث أن مجرّد التواجد على طاولة المؤتمر يومها واليوم كان يعني حجز “مقعد” الدولة اللبنانية على خارطة المنطقة.

فارس بويز وزير خارجية لبنان تلك المرحلة ذهب بهذه الصفة إلى القاهرة في تموز العام 1991 وبطلب من وزير الخارجية الأميركي جيمس بايكر الذي كان يتولّى التحضير لمؤتمر مدريد والدعوات إليه. كان بعض السياسيين في الصحافة البيروتية يطالب بعدم مشاركة لبنان في مؤتمر مدريد بحجج “وطنيّة” أهمها عدم مشروعية الجلوس على طاولة واحدة مع الوفد الإسرائيلي! بينما كان الرئيس السوري قد وافق على مشاركة سوريا بوفد يرأسه وزير خارجيّته فاروق الشرع. كانت المفارقة أن بعض أكثر المتحمِّسين لعدم مشاركة لبنان هم من حلفاء بل أقرب حلفاء النظام في سوريا!

يبدو أن بايكر فهم احتمال “اللعبة” الهادفة إلى مشاركة سوريا وعدم مشاركة لبنان فالتقى بالوزير بويز ليحذّره بوضوح من أن غياب لبنان عن مؤتمر أساسي يعيد ترتيب علاقات المنطقة سيعني فقدان المقعد اللبناني في المنطقة نفسها. كان بايكر في تلك اللحظة ممثّلا للنظام الدولي الذي يعيد ترتيب المنطقة بعد الانتهاء من طرد صدام حسين من الكويت والحاجة إلى إطلاق دينامية حل فلسطيني إسرائيلي وحلول أردنية وسورية ولبنانية مع إسرائيل.

كانت نصيحة بايكر للبنان بالمشاركة أو بخطر الغياب نصيحة تتعلّق بمستقبل الدولة اللبنانيّة التي كان يعرف في تلك الفترة أن واشنطن وافقت على وضعها “مؤقّتاً” عام 1990 تحت إدارة المرجعية السورية.

شارك لبنان بل أُشْرِك بقرار دولي لأن مجرد وجود مقعده غير شاغر هو الجوهري بمعزل عن ضعفه بل لا دوره في المنطقة.

اليوم يتجدّد في ظروف مختلفة المعنى الجوهري نفسُه لإشراك لبنان في مؤتمر فيينا الذي سيتحوّل بالتأكيد واعتبارا من تاريخ الاتفاق الإيراني الأميركي الدولي ثم أول “تطبيق” روسي عسكري سياسي لهذا الاتفاق في سوريا إلى مسار دائم لإيجاد حل للأزمة السورية، مسار سيعني حكما وبالتوازي أنه إعادة ترتيب لأوضاع المنطقة ومنها لبنان.

جلس لبنان إذن في فيينا يوم الجمعة المنصرم على “طاولة البنّائين” بعدما قَسَمَ الوزير جون كيري المنطقة في مصطلح صراعي جديد: “البنّاؤون والهدّامون” (راجع مقالي تحت عنوان: لِنَنْتَبِهْ بشدة إلى هذا المعيار الأميركي الجديد 31/10/2015).

لبنان الحاضر ولو كشاهد على مسار بل داخل مسار طويل جداً لترتيب الوضع السوري المطحون هو فرصة تأسيسية. فالديبلوماسية اللبنانية يجب أن تكون معنيّةً يوميا بمراقبة تطور البحث حول سوريا من حيث تأثيره على مصير الصيغة اللبنانية. وإذا كان لبنان متلقّيا للشأن السوري وليس مقرِّراً فيه (رغم المساهمتين الشيعية والسنية “اللبنانيّتَيْن” في الحرب الأهلية السورية!) فإن صيغة سوريا الجديدة هي صيغة مقرِّرةٌ بل حاسمة في بنية الصيغة اللبنانية الجديدة.

لذلك وبقدر الأهمية الجوهرية للمقعد اللبناني الممتلِئ ولو شكلاً في مسار فيينا فإن أي كلام عن “مؤتمر تأسيسي” لبناني الآن هو كلام مهدور وفي أفضل حالاته مضيعة للوقت.

كل الصيغة اللبنانية “معلّقة” أو الأدق “مؤقّتة” في ظل عدم نضوج الصيغة السورية الجديدة وعبرها صورةُ المنطقة بكاملها في مرحلة ما بعد سايكس بيكو.

مسار مدريد حفظ لنا الشخصية الدولية للكيان اللبناني.

مسار فيينا لا بد في نهاية المطاف أنه سيعدِّل في الصيغة اللبنانية أو يغيِّرها عندما يتمكّن من تحديد الصيغة السورية الجديدة. الصيغة الأردنية

تستقر بعد اتضاح الحل الفلسطيني رغم كون الأردن هو جنوب شرق سوريا الملاصق ويشارك كما يُشرَك في مؤتمر فيينا. لكن الصيغة اللبنانية، مثل عام 1920 وعام 1943 وبينهما عام 1936 تتبلور مع الصيغة السورية مُتَوْأَمَةً متواضحةً ومتغامضةً معاً.

لا أشك لحظة أن قوى الصراع الرئيسية في لبنان لو كانت تفاوض على الحكومة الحالية بعد مسار فيينا لكانت اختلفت نظرتها إلى من هي الوزارات الأهم ولكانت بدّلت طلباتها التي شهدناها خلال مفاوضات تشكيل حكومة تمام سلام. لهذا بعد بدء مسار فيينا فإن وجود وزارة الخارجية مع 8 آذار، والجناح الماروني منه،

هو رمية “استراتيجية” في السياسة الداخلية اللبنانية لم تتمتّع بها هذه الوزارة منذ بدء تطبيق اتفاق الطائف عام 1990.

شاركت في فيينا 16 دولة والاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة، بينها 5 صغيرة عربية و4 وسطى إقليمية و7 كبيرة. بين الخمس الصغرى لبنان هو أصغر الأصغر أمنيا وسلطوياً والأكبر ثقافياً و”الأكبر” في استخضاع الآخرين له.

أية أهداف ديبلوماسية لبلد مثل لبنان كلما بدا “افتراضيّاً” في لحظةٍ… أنقذهُ مقعدٌ شكلي جداً جوهريٌ جداً؟