يتزامن التوجّه الدولي الراهن لتنفيذ حملة تفكيك معاقل إمارة «داعش» في كلّ مِن العراق وسوريا، مع نقاش تُجريه أجهزة الاستخبارات الغربية، حول ما ستكون عليه المرحلة التالية لسقوط إمارة أبو بكر البغدادي.
ويتركّز النقاش تحديداً حول ما إذا كانت استراتيجية «ضرب رأسِ تنظيم داعش» في الرقّة والموصل وتلعفر ودير الزّور وجرود السلسلة الشرقية اللبنانية السورية، ستؤدي إلى إنهاء خطره، أم أنّها ستفضي إلى تكرار الحالة نفسِها التي نشأت بعد ضربِ رأس النسخة الأولى من تنظيم «القاعدة» المتمثّل بأسامة بن لادن، حيث تمّ وصفُ هذه الخطوة لاحقاً بـ«الخطأ الاستراتيجي»؛ وذلك للدلالة على أنّ قتلَ رأسِ الهرم في «القاعدة» آنذاك، لم يؤدِّ إلى إنهائها، بل إلى ولادة جيل ثانٍ منها مع أبو مصعب الزرقاوي، ثمّ ثالث مع البغدادي.
وما تسود الخشيةُ في شأنه الآن هو أنّ تصفية «المعاقل المكانية» لإمارة «داعش» لن يؤدي بالضرورة إلى القضاء عليها بمقدار ما أنه سيمهّد لولادتها بنسخة جديدة تمتاز بخطورة إرهابية أقوى.
ومنشَأ هذا التقدير موجود هذه الفترة لدى الأجهزة الاستخبارية الغربية التي تسودها حالياً «خيبة أمل» نتيجة أمرَين اثنين واجهَتهما خلال حربها مع داعش: أوّلهما يتمثّل باعترافها بوجود ضعفِ تنسيق في ما بينها، وثانيهما يتعلق بفشلِ استراتيجيتها المسمّاة «حصار المدن» والتثبُّت من عدم تسلّلِ عناصر «داعش» بين صفوف النازحين الخارجين منها إلى خارج سوريا والعراق.
ويفيد تقدير الاستخبارات الأميركية، أنّ هذه الاستراتيجية أخفقَت في تحقيق هدفِها، حيث إنّ هناك نحو 30 ألف من عناصر «داعش» اختفوا عن شاشة متابعة الاستخبارات الغربية لهم، ويُعتَقَد على نطاق واسع أنّ هؤلاء نجحوا في التسلّل مع نازحين من مناطق سيطرة «داعش» المنهارة الى مناطق أُخرى غير معروفة.
وتؤكّد نتائج تحقيقات أجرتها المخابرات التركية مع موقوفين أساسيين من «داعش»، أنّ قيادة الرقة وضَعت «الخطة ب» الخاصة بطريقة مواجهة مرحلة ما بعد إخراجها من مناطق إمارتها في سوريا والعراق، وهي بدأت تنفّذها فعلياً، منذ أن تأكّد البغدادي من أنّ القرار الدولي صدر بتصفية المعاقل المكانية لإمارة «الدولة الإسلامية في بلاد العراق والشام» (داعش).
وكشَفت التحقيقات عينُها عن أنّ «الخطة ب» لـ«داعش» تتمثّل بالآتي:
ـ أوّلاً، نقلُ الصفّ الأوّل والثاني من قادتها الدعويّين والأمنيين والعسكريين إلى مناطق أُخرى محدّدة تقع في غالبيتها في دول جوار سوريا حيث كثافة النازحين السوريين، ويتجمّعون فيها بنحوٍ سرّي وبين ظهراني البيئات السورية النازحة.
ـ ثانياً، وهو الأخطر، ويتحدّث عن أنه منذ فترة بدأت عملية تسَرّب عناصر «داعش» بين جموع النازحين الخارجين من مناطق إمارتها الساقطة، أو الآيلة للسقوط، ليستقرّوا في مناطق محدّدة في دول جوار سوريا والعراق، وذلك على شكل «خلايا مهاجرة» تتألّف كلّ واحدة منها، من 10 إلى 15 شخصاً. وهذه الخلايا من ثلاثة أنواع: «خلايا عمل» وأخرى «نائمة»، و«خلايا منفردة» تضمّ شخصاً واحداً وينفّذ عملياته الإرهابية النوعية وفق أسلوب «النمر المنفرد».
ويقدَّر عدد «الجهاديين» الذين أضاعت أثرَهم الاستخبارات الغربية بثلاثين ألفاً، بينهم مئات من قادة الصفّ الأوّل المصنّفين أنّهم الأكثر خطورةً، و3 آلاف غادروا دير الزور، ونحو 3 آلاف كانوا منتشرين في «القائم» و«الحويجة» في العراق، ونحو ألفين كانوا موجودين في مناطق مختلفة من سوريا، و8 آلاف آخرون هناك اعتقادٌ بأنّهم خرجوا مع النازحين السوريين إلى دول جوار سوريا. وفي الإجمال تقول تقديرات المخابرات الأميركية إنّ 30 ألفاً من عناصر «داعش» لم تعُد هناك معلومات عن أماكن وجودهم.
السؤال الذي يطرح نفسَه في هذا المجال هو أوّلاً: ما هو العدد الذي دخلَ إلى لبنان، من بين هؤلاء الـ 8 آلاف الذين تقول المخابرات الأميركية إنّهم تسَلّلوا مع النازحين إلى دول جوار سوريا؟ وثانياً، ما هي نسبة ما وصَل إلى لبنان من بين الثلاثين ألفاً الذين لم تعُد هناك معلومات لدى المخابرات الغربية عن أماكن إقامتِهم؟.
وما يَجدر التوقّف عنده في مجال الإجابة عن هذين السؤالين، هو المعطيات الأساسية الآتية:
ـ أوّلاً، العناصر التي أوقفَتها تركيا والتي كشفَت اعترافاتها «الخطة ب» لدى «داعش»، أوضَحت أنه بموجبها عيَّنت «داعش» أميراً لكلّ خلية هاجرت من سوريا إلى جوارها، وهي تؤمّن لهم ثمنَ المسكن والغذاء حيث يحلّون في إقاماتهم الجديدة المتّسِمة بأنّها تعجّ بالنازحين السوريين.
ما يبدو لافتاً في هذا المجال هو أنّ كلّاً مِن مخيَّمي برج البراجنة وشاتيلا تحوَّلا خلال الفترة الأخيرة من مخيّمَين للّاجئين الفلسطينيين إلى مخيّمَين للنازحين السوريين، فنسبةُ الأخيرين فيهما تجاوزت السبعين في المئة.
وتُرصد فيهما ظاهرة أنّ اللاجئ الفلسطيني في المخيّمين بدأ ينتقل منهما إلى مناطق لبنانية أُخرى لا يتعدّى إيجار المنزل فيها الـ 350 دولاراً، فيما يؤجّر مسكنَه للنازحين السوريين في مقابل مادّي يُعتبر من منظار مستوى المعيشة فيهما، مرتفعاً نسبياً ( بين الـ 500 و600 دولار).
والسؤال هنا هو: من يغطّي هذه النفقات للمستأجرين من النازحين السوريين؟ وهل إنّ ما يجري في بعض جوانبه وحالاته يندرج ضمن تطبيقات «الخطة ب» لـ«داعش» في لبنان.
ـ ثانياً، تفيد معلومات أنّ الخلايا الأخيرة التابعة لـ«داعش»، التي تمّ ضبطها في لبنان تعود في معظمها لأفراد تسلّلوا حديثاً إلى لبنان، وهو مؤشّر على إمكانية أنّهم ينتمون إلى سلالة هجرة «داعش» التي بدأت مع قرار أميرها البغدادي ببدء التوزّع في ساحات دول الجوار السوري ضمن الهيكلية الجديدة.
ـ ثالثاً، لعلّ أخطر ما قد يواجهه لبنان في مرحلة «الخطة ب» الداعشية، هو أنّ المفوّضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين هي من تحتكر «داتا» المعلومات في شأن أعداد النازحين الموجودين في لبنان وأماكن توَزُّعِهم.
فيما الدولة اللبنانية لا تملك «داتا» شاملة عنهم، نتيجة قرار دولي بهذا الشأن. وبهذا المعنى ثمَّة حاجة إلى تحريك ملفَّين في مواجهة المرحلة الجديدة من تحديات «داعش»، أوّلهما، ضرورة حصول مشاركة بين الدولة والمفوّضية في «بنك داتا» اعداد النازحين في لبنان وتوزّعهم فيه وقيمة ما يُحصّله كلّ فَرد منهم كمساعدة ماليّة شهرية من الأخيرة.
والثاني الإسراع في تنفيذ سياسات متدرّجة لإعادة النازحين إلى سوريا، أو تحديد أماكن لإقامتهم، وذلك عبر التوافق على رؤية لبنانية رسمية موحّدة لطريقة تنفيذ هذين الأمرَين.