ما هو سر الصمود اللبناني والقدرة على مواجهة تحديات واعباء جسام بإمكانات متواضعة وسط ظروف اقليمية معقدة؟ ما هو سر «الإستقرار» اللبناني وسط محيط متفجّر، ما هذا اللغز في ان ينعم لبنان بوضع امني جيد مقارنة بما يجري من حوله؟ كيف لدولة من دون رأس او رئيس او مؤسسات ان تعيش وتدّبر امورها وتسيّر شؤونها؟ وكيف لمجتمع دولي ان يمحض قوته بدولة معطلة في مؤسساتها الدستورية وعاجزة في ادارة شؤونها؟
لقد أثبتت التجارب والوقائع ان المؤسسة السياسية في الدولة التي يهيمن عليها أرباب الطبقة السياسية في لبنان، بأغلبيتها الساحقة هي مؤسسة فاشلة. فالمؤسسات الدستورية والسياسية لا تعمل. مجلس النواب ابوابه موصدة في وجه التشريع الاّ في حالات تشريع الضرورة. الحكومة تكاد تجتمع وتقرر في مسائل غير اساسية وهي فشلت فشلاً ذريعاً في ادارة الوضع الحياتي في أدنى مقوّماته وملفاته بدءاً من ملف النفايات المعيب والمخجل، مؤسسات الدولة وادارتها ينخرها الفساد وتعمها الرشوة وعلى «عينك يا تاجر» والشاطر بشطارته، دولة مقدسة بالنصوص ومكدسة باللصوص هذه هي صورة الوضع بكل موضوعية في لبنان.
لكن اذا كانت المؤسسة السياسية «فاشلة» ومعها اغلبية مؤسسات وادارة الدولة فإن هذا الفشل لا يسري على مؤسسات قليلة تعد على اصابع اليد الواحدة وتُعتبر في صلب واساس صمود الدولة ومناعتها وثقة المواطنين بها وفي اساسي الاستقرار النسبي الذي ينعم به لبنان اذا ما قورن بأوضاع دول اخرى في المنطقة.
المؤسسة الأولى التي يعود لها الفضل في حالة الاستقرار هي المؤسسة العسكرية بقيادة العماد جان قهوجي « الصامت الاكبر».
لقد أثبت الجيش اللبناني ومعه بقية الاجهزة الامنية منذ بزوغ خطر الإرهاب وتفشيه «السرطاني» في ارجاء المنطقة قدرة فائقة ونجاحاً مشهوداً في محاربة الإرهاب وضرب اوكاره وخلاياه ومنع تمدده وتسلّله الى الداخل اللبناني. وحصل كل ذلك بإمكانات وقدرات عسكرية وأمنية وتكنولوجية محدودة ومتواضعة في حين ان جيوشاً جرّارة ومجهزة بأحدث التجهيزات والمعدات في العالم لم تحقق نجاحات مماثلة ولم تحسن التعامل مع الإرهاب واجتثاثه والنيل منه.
واذا كان الجيش اللبناني نجح في مهمة صعبة ومعقدة على الحدود وفي الداخل متصدّياً للجماعات الإرهابية وعاملاً على ملاحقتها وتفكيكها والقبض على رؤوسها فإن هذا النجاح يعود الى عوامل ذاتية قبل اي شيء آخر ومنها ايمان الجيش بقضية الدفاع عن الوطن وسيادته ووحدته وسلامة اراضيه وسلمه الأهلي وتماسك الجيش خلف قيادته وولائه للوطن ايضاً، بعيداً عن الولاءات الطائفية والسياسية. ومنها ايضاً حالة التعاون والتنسيق بين الجيش ومختلف الأجهزة الأمنية ( المعلومات والامن العام وامن الدولة ) التي أثمرت تطويقاً للإرهابيين وتضييق الخناق عليهم ومحاربتهم في بيئة غير حاضنة لهم وترفضهم وتلفظهم.
هذه الإنجازات والنجاحات الأمنية وخصوصاً في مجال مكافحة الإرهاب والجريمة المنظمة وكل أشكال التطرّف والعنف المسلّح، كانت موقع تقدير وإشادة من حكومات المجتمع الدولي ودوائره الدبلوماسية.
وفي هذا الإطار اندرجت زيارة العماد قهوجي مطلع هذا الشهر الى الولايات المتحدة الأميركية حيث سمع كلاماً ايجابياً ولمس الثقة بالجيش والاستعداد لدعمه بالتجهيزات والأسلحة اللازمة ورفع حجم ومستوى هذا الدعم بما يتناسب مع طبيعة التحديات والحرب على الإرهاب.
وقد عاد العماد قهوجي من هذه الزيارة مرتاحاً الى نتائجها والى آراء ومواقف المسؤولين الأميركيين الذين التقاهم في وزارة الدفاع وفي وزارة الخارجية او في الكونغرس وقالوا له ان اسلوب الجيش اللبناني في مكافحة الإرهاب وتصديه للإرهابيين يستحق التقدير والاحترام وهو نجح في ان يحجز مكانة متقدمة بين الجيوش المتماسكة التي تواجه الإرهاب.
هذا التقدير سيُترجم عملياً في مساعدات نوعية لتعزير قدرات الجيش وتزويده بمعدات متطورة تكنولوجياً بما في ذلك طائرات مراقبة وصواريخ ذكية، وقد نجح العماد قهوجي في حث الادارة الاميركية على رفع قيمة المساعدة العسكرية من سبعين مليون دولار الى مئة وخمسين الف دولار اميركي، وحقق العماد قهوجي خلال رحلته الاخيرة انجازاً كبيراً للبنان وللجيش في وقت يتلهى السياسيون بخلافاتهم وصراعاتهم وتقاتلهم على السلطة.
الاميركيون اكدوا للعماد قهوجي ان المجتمع الدولي يضع ثقته بالمؤسسة العسكرية ويراهن عليها باعتبارها صمّام الأمان والاستقرار الداخلي في لبنان، من هنا فان الاستقرار الأهم هو الاستقرار الأمني ومن دون أمن لا اقتصاد ولا استثمار ولا سياحة ولا حياة اجتماعية وثقافية. وباختصار من دون أمن لا شيء.
هناك ايضاً مؤسسة أخرى هي موضع ثقة وتقدير دولي وهي مصرف لبنان بشخص الحاكم رياض سلامة «صمام الامان المالي» الذي يقوم بدور مهم موازٍ لدور الجيش اللبناني ومكمّل له لجهة تثبيت الاستقرار المالي بكل ابعاده.
فإذا كان الجيش يؤمن الاستقرار الأمني فإن مصرف لينان يؤمن الاستقرار المالي والنقدي الذي لا يقل اهمية ويصب في خدمة وتعزيز الأمن الاقتصادي والأمن الاجتماعي. وهذا الدور المؤثر والفاعل والناجح لمصرف لبنان يعود الفضل الأساسي فيه الى الحاكم الدكتور رياض سلامة الذي عرف كيف يواجه الأزمات والتحديات الدولية باستراتيجية مالية ومصرفية، واقعية وحكيمة وكيف يوفّق بين الخصوصيات اللبنانية والمتطلبات الدولية. فعندما كانت الأزمة المالية العالمية محتدمة قبل سنوات كان لبنان ينأى بنفسه عنها ولم يتأثر باهتزازاتها العنيفة. وعندما كانت ثورات وحروب الربيع العربي تنسف استقرار المنطقة وتهدد مقوّمات ومرتكزات الاقتصاد اللبناني، ظل لبنان محافظاً على وضع مالي متماسك وعلى قطاع مصرفي سليم وصلب. وعندما كان لبنان منذ العام 2005 متنقلاً بين ازمات سياسية وضغوط امنية لم تحدث اي ازمة مالية ولم تقع الدولة يوماً تحت ضغط اي ظرف وحاجة.
واخيراً عندما صدرت قوانين اميركية فرضت قيوداً وعقوبات على «حزب الله» وتعاملاته المالية، كان مصرف لبنان يؤكد القيام بدوره وواجباته حيال التزام كل ما يُطلب من لبنان اميركياً او اوروبياً او حتى على مستوى الأمم المتحدة بما يجعل قطاعه المالي في منأى عن اي مخاطر.
ونجح المصرف المركزي في إرساء علاقات جديدة مبنية على الثقة مع السلطات النقدية الأجنبية والمصارف المراسلة وفي تأكيد التزام لبنان الجدي وعدم إخلاله بأي إجراء وقرار دولي بما في ذلك سابقاً قرار العقوبات على ايران.
وحسناً فعلت جمعية المصارف عندما توجه وفد منها بتوجيه ورعاية ومتابعة من حاكم مصرف لبنان الى واشنطن وسلّم المسؤولين نسخاً من القوانين التي اقرّه البرلمان اللبناني مؤخراً وتؤكد امتثال لبنان وقطاعه المصرفي للنظام المالي العالمي وتحديداً الأميركي…
وحسناً فعل الرئيس بري ايضاً عندما قرر تشكيل لجنة نيابية وايفادها الى واشنطن في اطار حملة دبلوماسية لبنانية، وعندما قرر ايفاد وزير المال علي حسن خليل الى واشنطن ايضاً في السياق ذاته. وهذا الاستنفار الرسمي والدبلوماسي مضافاً اليه الجهد الخاص والكبير الذي يبذله حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، هدفه ووظيفته إبلاغ الأميركيين رسالة واضحة مفادها ان التزام القطاع المصرفي في لبنان بالقوانين اللبنانية وتعاميم مصرف لبنان كفيل وحده بحماية المصارف اللبنانية وبالتالي حماية لبنان واستقراره ونظامه المالي.
ويثبت التزام لبنان بالإجراءات الدولية في مجال مكافحة تمويل الإرهاب وتبييض الأموال ومراقبة وضبط النقد عبر الحدود وتبادل المعلومات الضريبية الخ…
في المحصلة، لبنان صامد بفعل وقوة جيشه ومصرفه المركزي. هذا سر صموده واستقراره وقوته ومناعته. قوة لبنان ليست في ضعفه وانما في استقراره الأمني والمالي.