شباب لبنان نخوة ومفخرة
هو غضبٌ مشحون بالحبِ الكثير والإنتماء الكبير الى وطنٍ يُشبه بحكاياتِهِ قصص ألف ليلة وليلة. وهو حلمٌ بوطنٍ لا ألم فيه بل أمل ومستقبل وأمان وعدالة وحقوق. وهم شبابٌ هبوا لصناعةِ الفرق في كلِ مرة تخاذلت فيها الدولة ورمتهم للجوعِ والبطالة والموت. هم شباب لبنان الذين هبوا، من جديد، لصناعةِ مصير لبنان.
يحتفي شباب العالم غداً “باليوم الدولي للشباب” في حين ينهمك شباب لبنان بتنظيف أوساخ “الدولة” مطبقين نشيد: كلنا للوطن. هؤلاء، الشباب اللبناني، شعلة الثورة ونورها، أذهلوا العالم “بنخوة” إستثنائية لكن هل هم، بالفعل لا بمجرد القول، من يحققون (ومن سيحققون بعد وبعد) التغيير؟
قبل أن نغوص في المشهدية العامة نسأل الباحث في “الدولية للمعلومات” محمد شمس الدين عن شريحة الشباب (بين 18 و30 سنة) عددياً؟ يجيب: هناك 950 ألف شاب وشابة تتراوح أعمارهم بين 18 و30 عاماً. وإذا افترضنا أن لهذه الشريحة بالذات أجنحة تحلق بالشباب والشابات سريعاً الى بلاد الخيال، فلا يرون أمامهم إلا الأفراح والمسرات ولا يعللون النفس إلا بالآمال والأماني، نكون أمام الشريحة القادرة على تطويع الجوامد وصناعة التغيير. فهل نمني النفس بذلك؟ يقول شمس الدين: حين انطلقت 17 تشرين حلّ الشباب في الطليعة، وحين حلّت الكارثة الفظيعة، نزلوا الى الساحات وراحوا يساعدون وينظفون ويهبون الدماء. وهذا يشي بأن هذه الشريحة هي قوة المجتمع ومبعث الأمل. الشباب اللبناني تميّز ومنذ زمن بنضجٍ قلّ نظيره، لكن ما حصل دائماً أن من يحكمون لم يتيحوا للشباب الفرصة، ولا مرة، للتعبير من خلال قانون إنتخابات عادل. وبالتالي، بعدما وصلنا الى ما وصلنا إليه، على الشباب أن يطالبوا الآن وبإلحاح بقانون انتخابي جديد لأن القبول بالقانون الموجود سيأتي بنفس الطبقة السياسية الموجودة. مطلوب قانون جديد يجعلهم لا يعزفون عن المشاركة ترشحاً واقتراعاً”.
ما رأي الباحث في علم الإجتماع الدكتور ملحم شاوول؟ يصرّ شاوول على تحديد الفئة التي تسمى الشباب في كلِّ مرة يتم الحديث فيها عن حراك وتغيير ويقول: “الشباب هم جزء من المجتمع، خضعوا لتنشئة إجتماعية أو مناطقية أو طائفية مختلفة، ومنهم من ثار ومنهم من لم يرغب بالثورة، وبالتالي هؤلاء ليسوا “بلوكاً” واحداً. لكن، في المقابل، يتشارك كل هؤلاء بالمعاناة العامة من سوء الأوضاع الإجتماعية والإقتصادية وعدم استهدافهم كفئة تستحق أن تكون موجودة في كل القرارات التي تصدر، أو يفترض أن تصدر، بل يأخذونهم “قشة لفة” مع الفئات الأخرى”.
هناك من سيقول الآن، وكيف لا تهتم بهم الدولة وهناك، على سبيل المثال لا الحصر، وزارة للشباب؟ يجيب شاوول “وزارة الشباب هي للرياضة لكن للشباب احتياجات أخرى غير الرياضة أيضاً”. ويستطرد: “هناك إحصاءات تجري في العالم حول البطالة، يتم لحظ نسبتها في صفوف الشباب، ونسبتها العامة. هنا، في لبنان، يُحكى عن نسبة البطالة العامة فقط لا غير. وبالتالي، غالبية الدوائر الرسمية لا تستهدف في مخططاتها الإجتماعية والإقتصادية هذه الفئة بالذات”. ملحم شاوول يتحدث عن ضرورة أن يكون الشباب “خميرة التحركات الإحتجاجية” لكنهم ليسوا كل الإحتجاجات ويقول: “فئة الشباب غير قادرة على التغيير وحدها، بل هي تحتاج الى قوى إجتماعية وإقتصادية ضاغطة وتملك نفوذاً في الاقتصاد والمؤسسة العسكرية والإدارة والقانون، وبالتالي الكلام عن قدرة الشباب على التغيير فيها بعض الرومانسية. فدور الشباب مهم، مساعد، ضروري لكنه ليس وحيداً”.
فلنطرح نفس السؤال على الخبير في علم القانون والإجتماع الدكتور أنطوان مسرة؟ هو مشغول اليوم بأمرين: إعادة الحياة الى منزله الذي انقلب رأساً على عقب إثر الإنفجار، والقراءة في خيار الحياد. يستعين مسرة بقصاصة من صحيفة محلية تعود الى العام 1958 عُنون أبرز خبر فيها: “إشترط عبد الناصر إذاعة بلاغ رسمي بالمحادثات مع رئيس المجلس النيابي اللبناني في القاهرة يؤكد حياد لبنان الرسمي وعدم إرتباطه بجهة قبل زيارة الصلح الى مصر أو زيارة عبد الناصر الى بيروت”. الحياد طبعاً قصة قبل 2020 وقبل 1958.
نعود لنسأل عن مشهدية الشباب اللبناني قبل يوم واحد من “اليوم الدولي للشباب”؟ يجيب مسرة: “ثمة فارق بين شباب لبنان والشباب العربي والدولي، فالشباب لم يعيشوا، في شكل عام، فترات الحرب العالمية الأولى ثم الثانية، وبالتالي ما نراه هو خفوت الإلتزام السياسي في العالم، في حين أن للشباب اللبناني شأناً آخر، فقد عانت هذه الفئة هنا من تتالي الحروب والتداخلات والضغوطات و”دموع التماسيح” والإحتلالات، وبعد حدوث زلزال الرابع من آب، اختلطت المشاعر لدى الشباب، كما لدى الكثيرين، بين اليأس الشديد والأمل الجديد بتغيير ما هو آت. هؤلاء شعروا أن الأمور فضحت والتحايل بات مستحيلاً وأن الزبائنية الى أفول والمتواطئين انتهوا. وهنا يستعين مسرة بمقولة مضمونها “هناك من نخشاهم وهناك من نستعملهم”. وهذا معناه أن هناك، بحسب مسرة، “مماسح” في السياسة”. ويستطرد: “نحن أمام حالة في علم النفس العيادي في لبنان، عانى منها الشباب كثيراً لأن هناك من قصد أن يكذب عليهم كثيراً. وهذا ما جعل البعض يعيشون مخيلة مارونية لبنان الصغير، في حين عاش آخرون مخيلة درزية المكانة (الدرزية- المارونية في الجبل)، وظهرت مخيلة نفسية شيعية تعاني من هاجس الاقصاء عن البنيان اللبناني… هذا يعني أن اللبنانيين أعلنوا لبنان الكبير مع استمرارية لبنانات الماضي من خلال تاريخ تقليدي، بدون التنبه الى مخاطر هذه الذهنيات وبدون إدخال لبنان الكبير في سياق ثقافي وتربوي. وهذا ما عانى منه الشباب، كل الشباب”.
ما رأي محمد شمس الدين باندفاعة الشباب اليوم بعد يأس وأمل؟ يجيب: “ما نراه اليوم، على الرغم من السواد الذي نشره الزلزال، يوحي ان الشباب لا يفقدون الأمل بسهولة، بدليل انهم هبوا مرة جديدة للحلول مكان الدولة، في المهام التي يفترض ان تكون ملقاة عليها، وها هم يساعدون منذ اسبوع، من الثلثاء الماضي الى اليوم الثلثاء، لمساعدة من يحتاجون الى مساعدة”. ويستطرد بالقول: “ما نراه ان هذا النظام أصبح خارج تفكير الشباب، وهم حين يريدون التعبير عن امتعاضهم يقولون: سنهاجر. وكل شاب قال (ويقول): أنوي الهجرة وكأنه يقول: لا لهذا النظام. وتعليق المشانق تعبير آخر عن رفض النظام”.
“بلد الأبطال يحكمه مجرمون”. الشباب رفعوا هذه اللافتة ومعها المشانق. وماذا بعد؟
الدكتور ملحم شاوول يتحدث عن ثلاثة خيارات أمام الشباب والشابات الذين يواجهون دولة متخاذلة تتجاهلهم هي: أن يتحولوا الى زبائنيين، اما يهاجرون، أو يعملون على أن “يديروا بالهم بنفسهم على نفسهم”. ويتابع: هناك نوعان من الشباب في شوارع لبنان: نوع يعارض بوعي ويملك المطالب. ونوع آخر ينزل ليُحطم ويعيث خراباً. في كل حال، ما نلاحظه هو أن الشابات أكثر وعياً من الشبان، فالأنثى تأبى إحداث الخراب، مع العلم أنها تتميز بالقوة والتصميم ويهمها ان تصل الى نتائج بناءة”.
ما رأي أنطوان مسرة بثورة الشباب اللبناني اليوم؟ يجيب: “شعارات هؤلاء واضحة: دولة واحدة لا دولتان. جيش واحد لا جيشان”.
وماذا عن مشهد “انتظارات الشباب اللبناني الكثيرة من الدولة الفرنسية” وطريقة ملاقاتهم الرئيس إيمانويل ماكرون؟ يجيب مسرة: اللبنانيون جميعاً، وليس الشباب والشابات وحدهم، لديهم عقدة الباب العالي. هذا ما تعلموه في كتب التاريخ. في المقابل يجدون في الداخل من يرددون: عرّوا رئيس الجمهورية من صلاحياته، متجاهلين أن المادة 49 من الدستور تقول إن رئيس الجمهورية يسهر على تنفيذ القانون، يعني هو فوق كل القوانين والجهات والأطراف. يستطرد: كم كنا نحتاج الى رئيس جمهورية مثل الشيخ بشير يقول: جايي طبّق القانون.
اليوم الدولي للشباب غداً. شباب العالم سيحتفل أما شباب لبنان وشاباته فيرسمون صفحات مجيدة في التاريخ الحديث، بمكنسة ومجرود وبشمعة مضيئة وإرادة فولاذية.