وفق مبدأ وضع المصلحة الخاصة قبل المصلحة العامة اندفعَ أطراف الطبقة السياسية اللبنانية بكل تهوّر وانعدام مسؤولية لِتجاوز حاجز نهاية ولاية حاكم المركزي والدخول في فراغ جديد، في موقع يتولّى ادارة السياسة المالية وسط أوضاع كارثية، خصوصاً على المستويين المالي والاقتصادي.
وعلى الرغم من المعرفة العميقة للعواصم الغربية لأنانية أطراف الطبقة السياسية اللبنانية، الّا انها عَوّلت بعض الشيء على ان تعمد لانتخاب رئيس جديد للجمهورية قبل الوصول الى هذا الحاجز، وبالتالي عدم مضاعفة حجم الكوارث التي تَختزِنها الساحة اللبنانية. لكن الثقافة السياسية لأطراف الطبقة السياسية اللبنانية لا تحسن القراءة سوى في كتاب مصالحها الذاتية وانانيتها، ولو انها تتمسّك دائما بخطابات شعبوية برّاقة لا قيمة فعلية لها. أغلب الظن ان نواب حاكم مصرف لبنان سيتقدمون باستقالاتهم خلال الايام القليلة القادمة، صحيح ان هذه الخطوة لن تغيّر شيئاً في موضوع استلام زمام امور الحاكمية كَونها لن تُقبل، لكنها ستمنحهم ما يُشبه رفع المسؤولية المعنوية في حال انحدار الامور باتجاه الاسوأ، او على الاقل هذا ما يعتقدونه. وليس خافياً انّ الرئيس نبيه بري شَجّعهم على اتخاذ خطوة التقدم بالاستقالة للسبب عينه، فهو بات مكشوفاً وفي الواجهة تماماً من خلال تَولّي وسيم منصوري المحسوب عليه مسؤولية السياسة النقدية، وايضا إمساكه بوزارة المالية من خلال وزير المال المحسوب عليه. واستتباعاً، فهو يدرك أنه اصبح في مواجهة مباشرة مع تَبِعات الانهيارات المالية المتوقعة وسط ضغوط داخلية متصاعدة على وزارة المال حول عدم الكشف عن نتائج تقرير التدقيق المالي. لأجل ذلك سعى الرئيس بري بدايةً الى تأمين توافق يسمح بتعيين حاكم جديد للمركزي، وجرى التوافق على اسم الوزير السابق كميل ابو سليمان. لكنّ الخطوة لم تكتمل وجرى وضعها جانباً، ثم عاد بري وحاول إيجاد سبيل آمِن للتمديد لرئاسة سلامة، لكن تحرك القضاء الاوروبي ضده واحتراق ورقته بالكامل داخلياً لدرجة انها تفحّمت وسط تَكَشّف الفضائح، جعلَ من المستحيل لأي طرف داخلي ان يتحمل قرار التمديد له. وبالتالي، لم يَتبقّ سوى خيار استلام منصوري، وهو ما يجعل الرئيس بري على تماس مباشر مع تبعات الانهيار المالي الذي يضرب لبنان.
رياض سلامة سيذهب الى منزله او سجنه الذي بَناه على شاطئ منطقة الصفرا الكسروانية. حساباته ضاقت جدا، وهو عليه ان يتحضّر لحياة الوحدة كَون انخراطه في الحياة الاجتماعية اللبنانية والاختلاط بين الناس ليس بالأمر اليسير. أضِف الى ذلك انه قد يكون هنالك متورّطون كُثر ولديهم نفوذ، يتمنّون له ان يختفي لكي تختفي معه اسرارهم. الأرجَح انّ مرحلة ما بعد 31 تموز ستكون صعبة وحافلة بالضغوط وارتفاع منسوب التوترات الاجتماعية والحياتية. صحيح ان ثمة قراراً كبيراً مُتّخذاً بمنع حصول انفجار امني واسع على الساحة اللبنانية، وهو ما يضمنه الجيش ويثبته عند كل تَحدٍ يظهر، لكن هذا لن يمنع حصول توترات اجتماعية سببها الظروف الحياتية الصعبة، وهو ما يشهده العديد من المناطق اللبنانية، لا سيما الشيعية منها، ما يُضاعِف من حجم القلق لدى الثنائي الشيعي خصوصاً، فالعصابات والخارجين على القانون في ازدهار، ما يُشرّع الابواب امام المخاطر عند كل لحظة. وحتى أزمة الخيمتين عند الخط الازرق لم تنجح في اشاحة الانظار عن المأزق الداخلي. واذا عطفنا تفاقم حال الشلل والفراغ على مستوى مؤسسات الدولة ومخاطر انفلات الوضع المالي، على الضغوط السياسية الخارجية كالتلويح بالعقوبات وملف النازحين السوريين، فإنّ الصورة تبدو صعبة جدا ما قد يُساهم بِدَفع القوى السياسية اللبنانية الى تليين مواقفها وتدوير زوايا مصالحها الخاصة والذهاب الى حلول رئاسية واقعية، وعلى ما يبدو ثمة رهان خارجي في هذا الاتجاه.
وخلال الاجتماع الخماسي الاخير في الدوحة ظهرت لغة جديدة، خصوصاً في البيان الختامي، ما أوحى بمسارٍ جديد باتجاه لبنان يغلب عليه الحزم ومختلف بشكل جذري عن الاسلوب الفرنسي. الواضح انّ المُقترح الفرنسي الجديد حول طاولة حوار سقطَ بفعل رفض الدول الاخرى لخشيتها من ان يكون مدخلاً للانزلاق أكثر فأكثر باتجاه المؤتمر التأسيسي وتعديل الطائف.
والواضح ايضا ان فرنسا لم تعد اللاعب الدولي الوحيد على الساحة اللبنانية، في الملف الرئاسي ثمّة لاعب آخر يَحوز الدعم الفعلي للدول الاخرى، خصوصاً واشنطن والرياض. وجاء بيان وزارة الخارجية الاميركية فور صدور بيان اللقاء الخماسي ليؤكد ذلك. لكن فرنسا لن تخرج بالكامل من الملف الرئاسي ولا احد يريد او يسعى لذلك. من هنا قررت باريس اعادة موفدها الرئاسي لودريان الى بيروت من دون ترك «فراغات» زمنية. لودريان قال لمحدثيه اللبنانيين بعد اجتماع الدوحة ان الوضع في لبنان صعب لكنه ليس يائساً منه. وفهم الذين تواصلوا معه انه كان ينتظر مساعدة او هدية صغيرة من السعودية، لكنه لم يحصل على اي شيء من هذا القبيل. وربما هذا ما جعله يفكر بتأجيل عودته بعض الوقت بانتظار ظهور مُحفّزات ايجابية. لكن الرأي استقرّ في الايليزيه على عدم اهمال الوقت والقيام بالجولة الثانية. وهذه المرة سيحمل معه لودريان مهمة السعي لإيجاد قواسم مشتركة بين الفريقين المختلفين في الملف الرئاسي، وقد يكون التعبير الاوضح العمل على تقريب وجهات النظر بين الفريقين الشيعي والمسيحي. وخلال الايام الماضية انهمكَ ديبلوماسيون فرنسيون خلال لقاءاتهم بشخصيات لبنانية بطرح سؤال مركزي واحد: ماذا لديكم من افكار جديدة تستطيعون تزويدنا بها لإيجاد مخارج للازمة المقفلة؟ وهذا يعكس انسداد الافق امام الحركة الفرنسية في لبنان.
أغلب الظن انّ جولة لودريان لن تنجح في تحقيق تقدم حاسم، وسيليها تحرّك قطري محوره الاساسي «حزب الله». والخبرة القطرية في الملف اللبناني قديمة وهي تدرك بأن الباب الخلفي الايراني يجب ان يفتح قبل ولوج التفاصيل اللبنانية. واستطراداً، لا بد من استكشاف المستجدات الاميركية – الايرانية الحقيقية وليس الاعلامية. وخلافاً للمواقف الرسمية وتلك المعلنة ثمة قناعة بأنّ شيئاً ما ايجابياً طرأ على العلاقة الاميركية – الايرانية جرى الاتفاق على ان يبقى بعيداً عن التداول لِما فيه المصلحة الداخلية للطرفين لناحية التخفيف من الاحراج. فالتوتر العريض المباشر بين البلدين اختفى، وحلّ مكانه عرض عضلات ولكن في الساحات الرديفة او ساحات نفوذ ايران. فهل هذا يعني انّ مرحلة التفاهم الشفهي حول النووي وتحرير جزء الارصدة وتبادل إطلاق المسجونين قد تمّت؟ في الواقع ايران تشهد ارتفاعاً كبيراً في «تهريب» نفطها من خلال السوق السوداء من دون اي إزعاج اميركي. والمصلحة هنا مشتركة بينهما لناحية زيادة عائدات ايران المالية وخفض سعر النفط عالمياً، ما يُساعِد حملة بايدن الانتخابية. كذلك ثمة اموال تدخل الى ايران عبر البوابة العراقية بهدوء ومن دون ضجيج. ويبقى بَند تبادل السجناء، والذي قد يفضّل بايدن في تاريخٍ لاحق كي يستطيع الاستفادة منه انتخابياً وكي لا ينساه الناخب الاميركي في حال حصوله الآن. فالوقت ما يزال مبكراً بعض الشيء. كل ذلك يوحي بأنّ واشنطن وطهران قد تكونان أقفلتا المستوى الاول والاهم في العلاقات بينهما. وهو ما يفسّر بعض الشيء بعض التوتر الذي يسود العلاقات الايرانية – الروسية في هذه المرحلة، ولو على نطاقٍ محدود جداً.
وبالتالي، فهذا يعني انتقال واشنطن وطهران الى المستوى الثاني من الخلافات بينهما، والمقصود هنا «دَوزنة» حجم النفوذ في الشرق الاوسط ولا سيما في الممرات النفطية البحرية، وفي شمال سوريا وفي لبنان ايضاً. وهو ما يعني انّ عرض العضلات الحاصل سيشهد احتكاكات على الارجح، لكنها ستبقى مضبوطة تحت سقف الاتفاق على المستوى الاول الاعلى.
لذلك، عززت واشنطن قوتها العسكرية في الخليج العربي «لردع ايران» ومن دون ان تخشى حصول مواجهات مفتوحة وغير محسوبة. وكذلك فعلت في شمال سوريا وفتحت الباب امام تركيا التي تلقّفت الفرصة بسرعة ورشاقة، وانطلقَ اردوغان لتثبيت موقعه الجديد من خلال بناء علاقة جديدة مع السعودية والخليج ومصر واسرائيل، ما جعلَ روسيا وايران في موقعٍ أضعف في شمال سوريا. وكذلك في لبنان، طالما انّ اللعب بالاستقرار الامني ممنوع، فإن الضغوط السياسية والديبلوماسية ستكون البديل لإعادة بناء سلطة لبنانية ليست خاضعة لسيطرة «حزب الله» وفي الوقت نفسه غير عدائية له. وهنا يكمن سر اجتماع الخماسية في الدوحة. ومن هنا ايضاً تحديد موعد تحرّك اميركي مباشر باتجاه لبنان في الثلث الاخير من ايلول بالتعاون مع فرنسا والفاتيكان. لرئيس الوزراء البريطاني السابق اللورد بالمرستون قول شهير عن السياسة الاميركية تَبنّاه لاحقاً هنري كيسنجر وأصبح شعاراً، ويقول: ليس للولايات المتحدة أصدقاء دائمين ولا اعداء أبديين، بل فقط المصالح، او بتعبير أكثر تهذيباً السياسة الواقعية.
وفي لبنان ليس لهذه الطبقة السياسية مصلحة وطنية عريضة او مصلحة عامة، بل فقط مصالح شخصية وذاتية، ما يجعل باب التدخلات الخارجية مُشرّعاً لا بل مطلوباً.