كان وزير الخارجية الفرنسية جان ايف لودريان محقاً حين انتقد بقسوة الطبقة السياسية الحاكمة في لبنان، خلال اول زيارة لمسؤول اجنبي بهذا المستوى منذ 17 تشرين الاول الماضي. هو قال خلال لقاءاته: «فرنسا لم ولن تتخلّى عن لبنان، لكنكم انتم تخلّيتم عن مسؤولياتكم في انقاذ بلدكم». وتابع: «قرأت في الصحف قبل مجيئي، انّ لبنان ينتظر زيارتي، ولكن الحقيقة انّ فرنسا هي التي تنتظر لبنان». وختم وزير الخارجية الفرنسية كلامه المباشر والصريح بأسلوب غير مألوف قائلاً: «ما يذهلني هو مدى سلبية سلطات هذا البلد».
بموازاة ذلك، حفلت الصحف الفرنسية خصوصاً والاوروبية عموماً بتحقيقات سوداوية واكبت زيارة رأس الديبلوماسية الفرنسية الى لبنان، منها من كتب عن الانهيار الثقيل والمريع لدولة تحتفل بمئوية تأسيسها، ومنها من قال بأنّ لبنان لا يمرّ بأزمة بل انّه يدخل الى الاعصار. «دير شبيغل» الالمانية قالت بأنّ فرنسا ليست على استعداد لمنح مليارات لإنقاذ هذا النظام الفاسد.
في الواقع، فإنّ لودريان، الذي كان واضحاً في توصيفه للوضع امام مستقبليه اللبنانيين الى حد القسوة، قال بأنّ الاوان لم يفت بعد، ولو انّ الوقت الفاصل بات ضيّقاً جداً. وأنّ بلاده لن تُقدم على اي مساعدات مالية ما لم يتمّ تطبيق الإصلاحات، أو بما معناه، بأنّ زمن «الشيكات» على بياض انتهى. وفي حال عدم الاتفاق مع صندوق النقد الدولي فلا «سيدر» ولا مساعدات. وهو كان يقول بطريقة اخرى «بأنّكم تستطيعون ولكنكم لا تريدون».
وهو بذلك اراد ان يغسل يديه من المرحلة القاسية التي سيوشك لبنان على الدخول اليها.
تكفي الإشارة الى توجّه سفن متخصّصة بالإجلاء الى قبرص، بانتظار مراقبة الوضع في لبنان واحتمال تدهوره، لتقوم بإجلاء الرعايا الاوروبيين والاميركيين من لبنان. وهي اشارة اضافية تضاعف من القلق القائم.
في الواقع، فإنّ لودريان «هندس» ونسّق زيارته المثيرة الى لبنان مع الاميركيين، وهي بالتالي زيارة فرنسية بنكهة اميركية.
وقيل انّ لودريان أجرى محادثة هاتفية مطولة قبل سفره الى لبنان مع مساعد وزير الخارجية الاميركية لشؤون الشرق الاوسط ديفيد شينكر، الذي أدلى بعدها بتصريح قوي نيابة عنه وعن الفرنسيين ومستبقاً الزيارة الفرنسية.
رئيس الحكومة حسان دياب، وخلال لقائه بالزائر الفرنسي، جهد في الحديث عمّا حققته الحكومة. فيما تمسّك لودريان مراراً بحديثه عن الإصلاحات.
سأل عن انشاء الهيئات الناظمة في قطاعات الكهرباء والاتصالات والطيران المدني. استفاض في موضوع الكهرباء وحقيقة استمرار تمسّك البعض بخيار البواخر.
أراد أن يوحي بأنّ معادلة «مساعدات مقابل وعود» لم تعد صالحة.
لودريان الذي لم يضمّن برنامجه لقاء مع القوى والاحزاب السياسية، قد يكون أراد ان يعبّر بذلك عن خيبة امل فرنسا من العديد من هذه القوى والاحزاب.
كذلك، فإنّ تضمين الوفد المرافق له لرجل دين كاثوليكي متخصّص في موضوع مسيحيي الشرق، إنما له دلالاته الواضحة. وهذه مشاركة نادرة في تاريخ الوفود الرسمية الفرنسية. وهو تحدث داخل غرف الاجتماعات وفي كلمته الرسمية عن الإصلاحات الواجب القيام بها: ملف الكهرباء وزواياه المبهمة، استقلالية القضاء والتجميد اللاحق بالتشكيلات القضائية، تحسين اوضاع الادارة الرسمية وبالتالي وقف المحاصصة في التعيينات الخ…
وهو بمعنى آخر طالب بتغيير الذهنية في طريقة ادارة امور الدولة.
ذلك أنّ اكثر ما يقلق المسؤولين الفرنسيين هو الانهيار اللاحق بالطبقة الوسطى او ما يُعرف علمياً بالطبقة التي تؤمّن استقرار الاوطان. وهذا ما تطرّق اليه عضو الجمعية الوطنية الفرنسية غويندال رويارد، والذي وافق لودريان قائلاً: «انّ البلد الذي يحيي مئويته اصبح في خطر الموت. لقد تمّ تسريح حوالى 400000 عامل خلال عام واحد، والبطالة وصلت الى 50% وتخفيض قيمة العملة الوطنية قارب الـ 100% والتضخم وصل الى 50%، اضافة الى فساد مستشرٍ وتلوث الهواء والشاطئ… الدولة فاشلة».
ووفق ما تقدّم، فإنّ الوزير الفرنسي لم يأتِ فقط ليقول: ساعدونا على مساعدتكم، بل هو جاء حاملاً تحذيراً صارماً من مرحلة خطرة يتجّه اليها لبنان.
ورغم أنّ المسؤولين اللبنانيين حاولوا دفن رؤوسهم في الرمال، مكتفين باعتبار انّ الزيارة شكّلت خرقاً للحصار العربي والدولي المفروض على السلطة اللبنانية، إلّا أنّ الذين التقوا كبار المسؤولين اللبنانيين لاحقاً شعروا بعدم ارتياحهم الى نتائج هذه الزيارة.
فمع حلول شهر آب، استحقاقات كبيرة تنتظر لبنان. ويبقى التركيز على التجديد لقوات الطوارئ الدولية، والنقاش الصعب الذي سيواكبه، والهدف الاميركي بترسيم الحدود البحرية قبل البرية، إضافة الى نتائج المحكمة الدولية.
وبموازاة كل ذلك، تبادل للكمات بين الولايات المتحدة الاميركية واسرائيل من جهة وايران و«حزب الله» من جهة ثانية.
واشنطن دعت صراحة لتعديل في مهام عمل قوات الطوارئ الدولية. وهي ستركّز على القرار 1701 والدعوة لتطبيقه بشكل كامل، عبر السماح لقوات «اليونيفيل» بالتحرّك بشكل مستقل عن الجيش اللبناني، ومن دون موافقة مسبقة، وتضييق نشاط منظمة «أخضر بلا حدود»، والتي تعتبرها واجهة بيئية لـ»حزب الله»، فيما فرنسا طمأنت بيروت بأنّها ستعمل على إقناع الادارة الاميركية بعدم الذهاب بعيداً، وبتجديد من دون تعديل لقوات الطوارئ الدولية. في وقت يتعاطى فيه «حزب الله» بصمت حيال الاعتداء الاسرائيلي على موقع قرب دمشق سقط فيه عنصر للحزب.
الصمت المقصود لـ«حزب الله» يخفي وراءه استنفاد كامل مساحة الحرب النفسية، قبل الشروع بردّ، التزاماً بتثبيت معادلة قواعد اللعبة القائمة.
ورغم أنّ اسرائيل أوضحت بطرق عدّة، بأنّها لا تزال ملتزمة بالقواعد المعمول بها، وانّ سقوط احد عناصر «حزب الله» انما جاء عن طريق الخطأ وليس بهدف كسر قواعد اللعبة، إلّا أنّ الاستنفار الاسرائيلي يشير الى وجود قناعة بأنّ «حزب الله» ملزم بالردّ، كي لا يؤسس لقواعد جديدة للعبة العسكرية القائمة.
لكن التقديرات الاسرائيلية تتحدث عن ردّ محدود، يهدف الى بعث رسالة من دون الانزلاق الى تصعيد كبير. ردّ يشبه ما حصل عندما جرى «قص» السياج الحدودي. وبرّر قائد المنطقة الشمالية في الجيش الاسرائيلي امير برعام هذا الاعتقاد بقوله، بأنّه يشك بأن تكون اسرائيل في المرتبة العاشرة في قائمة اهتمامات «حزب الله» بسبب الاوضاع الاقتصادية والفقر في لبنان.
لكن موقع صحيفة «معاريف» الاسرائيلية نقل، بأنّ تقديرات الجيش الاسرائيلي ترجح بأن تطول فترة التأهّب العسكري على الحدود. اي انّ «حزب الله» سيأخذ وقته قبل الرد، استنفاداً للحرب النفسية التي يتقنها.
في اي حال، يراقب الجيش الاسرائيلي عن كثب التدهور الاقتصادي المريع للبنان، وهو يضع ذلك في صلب حساباته وخططه، وهو الذي استقبل منذ ايام رئيس هيئة الاركان المشتركة للجيوش الاميركية مارك ميلين في زيارته الثانية الى اسرائيل، وذلك في قاعدة «نفاتيم» الجوية؟ كما بحث الجنرال ميلي في لقاء عبر الفيديو مع رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو موضوع ايران والتحدّيات الامنية في المنطقة. اضافة الى لقاءات مع وزير الامن بيني غانتس ورئيس الاركان افيف كوخافي ورئيس الموساد يوسي كوهين.
ورغم ذلك، فإنّ خطر الحرب لا يبدو وارداً في الافق. فالمرحلة هي مرحلة ضغوط لا حروب. والواقع الداخلي الاقتصادي المزري في لبنان قد يؤدي الى نتائج اصعب من تلك التي قد تؤديها الحروب. ومن هنا عودة الى السؤال الاول والاهم: لماذا ترفض السلطة اللبنانية القيام بالإصلاحات المطلوبة؟