الجميع في لبنان يعرفون أنّ احتمالات التسوية في ملف الانتخابات الرئاسية لا تتجاوز الـ5% حالياً. وطبعاً، أكثر من يعرف هذا الأمر هو الوسيط الفرنسي جان إيف لودريان. ولذلك، هناك من يطرح السؤال: إذاً، لماذا يأتي الرجل إلى لبنان (مبدئياً يوم الإثنين المقبل)، وما هي طبيعة المهمّة التي سيؤديها؟
يقول أحد الديبلوماسيين في بيروت، إنّ باريس باتت تدرك جيداً أنّها لم تعد، كما كانت في الماضي، إحدى «عواصم القرار» التي تتحكّم بمسار الأمور في لبنان. فالنفوذ السياسي الأقوى بات موزعاً في شكل أساسي بين الولايات المتحدة وإيران. ويبقى للمملكة العربية السعودية وشقيقاتها الخليجيات حضور على المستوى الاقتصادي. ولا يمكن تجاهل إسرائيل القادرة على ممارسة التخريب في أي لحظة.
وأما فرنسا التي رعت الكيان اللبناني، منذ إنشائه في العام 1920 وفترة الاستقلال، وكانت لها الكلمة الفصل في العديد من المسائل اللبنانية المصيرية، فقد تقلّص موقعها تدريجاً في لبنان، فبات معنوياً إلى حدّ بعيد، لمصلحة الأميركيين والإيرانيين في الدرجة الأولى.
لكن فرنسا، يقول الديبلوماسي، لا تريد أن تستسلم في لبنان، أو أن تعترف للاعبين آخرين بأنّها خسرت نفوذها لمصلحتهم. وهي تعتبر أنّها ما زالت قادرة على التحرّك في لبنان «على راحتها»، بفضل الرصيد الذي تمتلكه و»المَوْنة» التي تستطيع ممارستها على الجميع في لبنان. وفي عبارة أخرى، تتعاطى فرنسا مع لبنان باعتباره واحداً من «الكومنولث الفرنسي»، أي واحداً من قدامى الدول التي كانت تقيم الانتداب عليها ذات يوم.
منذ أن ختم لودريان جولته الأولى في لبنان، عبّر مراراً عن خيبته، وأبدى شكوكاً في إمكان تذليل العقبات قريباً. ويقول بعض الذين حادثوه، بشيء من الدعابة: هو يتحدث اليوم كما فريق الرئيس ميشال عون خلال عهده. «أردنا أن نعمل، ولكن ما خلّونا»!
إذا جاء لودريان إلى لبنان، الاثنين المقبل، فهو لن يحمل حلولاً للتعقيدات التي اصطدم بها في جولته الأولى. والمناخ السياسي السائد لا يوحي بأنّ مجموعة الـ5 زائداً إيران ستحقق معجزة التوافق على المسائل اللبنانية خلال أيام قليلة، لا على مستوى التسويات الشاملة، ولا حتى على مستوى الملف الطارئ أي انتخاب رئيس للجمهورية.
فقط، سيأتي لودريان ليبرهن أنّ المبادرة الفرنسية ما زالت على قيد الحياة. فـ«كلمة السر» في باريس هي عدم ترك الساحة اللبنانية، لئلا يأتي آخرون ويملأوا الفراغ. ولذلك، ستحافظ باريس على دورها كوسيط وراعٍ للتسويات في لبنان، ولو بقيت احتمالات التسوية تقارب الصفر.
وفي هذا المعنى، يقول الديبلوماسي، سيواصل الفرنسيون حراكهم في لبنان لكي تستمر المبادرة، تماماً كما يضطر سائق الدراجة إلى تحريك الدوّاسة باستمرار، لأن توقفه يؤدي إلى اختلال توازن الدراجة والوقوع.
ولكن في موازاة هذا الموقع المعنوي الذي تتمسك به فرنسا في لبنان، ثمة مصالح حيوية لا يمكن إنكارها. فلبنان هو «القاعدة الفرنسية» الوحيدة على الشاطئ الشرقي للمتوسط وامتداداً حتى جنوب شرق آسيا، ثقافياً في الدرجة الأولى، ولكن أيضاً هو منصّة جيدة على المستوى الاقتصادي.
فالفرنسيون يقودون اليوم في لبنان قطاع استكشاف الغاز والنفط واستخراجه من خلال شركة «توتال». وهذا المشروع الواعد، مهما تأخّر، سيدر عشرات المليارات على فرنسا التي سيكون حضورها فيه موازياً لحضورها في مشروع إمداد الغاز المتوسطي إلى أوروبا. وهذا المكسب يعتقد الفرنسيون أنّهم قادرون على تثبيته من خلال رعايتهم للتسوية السياسية في لبنان، بعدما كانت مساهمتهم أساسية في المفاوضات لترسيم الحدود البحرية مع إسرائيل.
وعلى هذا الأساس، سيأتي لودريان في جولته الجديدة حاملاً أسئلة جديدة إلى القوى السياسية، بدلاً من تقديم الإجابات التي ينتظرها البعض. وفي العمق، لا تريد فرنسا إحراق مبادرتها بالإعلان عن خيارات حاسمة، لا في مسألة انتخاب رئيس للجمهورية ولا في أي مسألة خلافية أخرى بين اللبنانيين.
فالمرحلة التي أعلن فيها الفرنسيون صيغتهم للتسوية كانت متعبة لهم، وقد تعرّضوا خلالها لحملات انتقاد شديدة شنّتها القوى التي تعارض هذه الصيغة. وعلى الأرجح، لودريان «سيرفع العشرة» في لقاءاته المقبلة مع القوى السياسية، ويحمّلها مسؤولية التوافق في ما بينها على الصيغة التي ترضي الجميع.
سيقول لودريان هذه المرة: تحاوروا وتوافقوا، ونحن مستعدون لرعاية الحوار ودعم التوافق، كيفما كان. هنا في قصر الصنوبر أو في باريس أو أي مكان آخر. فاتصلوا بي عند الحاجة، وأنا جاهز للمساعدة!