لم يخذل الموفد الفرنسي جان ايف لودريان التوقّعات التي استبقت جولته اللبنانية الثانية، فهو فعلياً لم يحمل معه جديداً جدّياً بل فقط عناوين وتوصيات أشبه بالتمنيات، كمثل الدعوة إلى تحديد موعد لانتخاب رئيس جديد للجمهورية، واتخاذ الخطوات اللازمة لضمان عمل المؤسسات واستمراريتها، والسعي لإيجاد نقاط التقاء بين الطرفين المسيحي والشيعي حول الملف الرئاسي.
صحيح انّ لودريان لم ينطق باسم مرشح معيّن للرئاسة، ما يؤكّد مرّة جديدة بأنّ المبادرة الفرنسية «أصبحت وراءنا»، الّا انّه اشار باهتمام إلى ضرورة انخراط الخليج العربي، وتحديداً السعودية، في مهمّة البحث عن حلول للأزمة الرئاسية. وقد يكون التوصيف الأدق لجولة لودريان الثانية، أنّها للتأكيد أنّ تجاوز باريس لمبادرتها لن يعني ابداً تخلياً عن دورها وحضورها في لبنان. ولكن هل هذا يعني انّ الشلل الذي أصاب المبادرة الداخلية تمدّد ليصبح على مستوى المبادرات الدولية والخارجية؟ ظاهر الصورة يتوافق مع هذه القراءة المتشائمة، لكن الحقيقة تبقى مختلفة. فالحركة الناشطة على مستوى المنطقة لا تستثني لبنان على ما يبدو. فالواضح وجود كباش قوي في الساحات التي تُصنّف كساحات نفوذ إيرانية، ولبنان ليس بعيداً من هذا الكباش ولو بالأساليب الديبلوماسية لا العسكرية كما هو حاصل في ساحات المنطقة. أضف إلى ذلك انّ الهدف من هذه الضغوط أكانت عسكرية أو ديبلوماسية، صوغ معادلات جديدة تعيد «دوزنة» النفوذ الإيراني للمرحلة المقبلة.
من هنا مثلاً يمكن تفسير التعزيزات العسكرية الاميركية في اتجاه الخليج، رداً على احتجاز البحرية الإيرانية لناقلات النفط. هي لغة تخاطبية تتعلق بالنفوذ اكثر منها تصعيداً ينحو في اتجاه المواجهة. ومن هنا ايضاً تلويح الحوثيين باستئناف القتال في اليمن في اتجاه محافظات عدة ابرزها مأرب وتعز، في حال لم تتمّ تلبية شروطهم للحوار. الواضح انّه في ظلّ اتفاق المصالحة الايرانية ـ السعودية برعاية صينية، فإنّ ما يحصل له علاقة بتحسين المواقع التفاوضية وتحقيق مكاسب سياسية، لا العودة إلى النزاع الحربي العنيف.
وفي شمال سوريا وبعد التعزيزات العسكرية الاميركية، استمر التحرّش الجوي الروسي بالمسيّرات الاميركية. الواضح انّ ما يحصل يأتي في نطاق محدّد ومضبوط، وهدفه التخاطب ولو عبر الرسائل العسكرية لا التقاتل كما يظهر للوهلة الاولى، بدليل انّ الاحتكاكات تتحاشى إسقاط الطائرات، وحتى لو حصل خطأ ما فإنّ سقوط مسيّرات تابعة للجيش الاميركي لن يؤدي الى سقوط خسائر بشرية، وهو ما يمثل خطاً احمر. ما يعني انّ ما يحصل يدخل في إطار الضغوط والضغوط المضادة، لتثبيت توازنات جديدة ولترتيب مساحات النفوذ على الساحة السورية الشمالية، قبل فتح ملف الحسم العسكري لإدلب. كذلك فإنّ تجميد كل خطوات التطبيع مع النظام السوري والتي كانت بدأت منذ فترة، انما تدخل في السياق عينه.
وفي لبنان، تمّ تبادل الرسائل تحت العنوان نفسه، والتي تنوعت بين الرسائل العسكرية والسياسية. فللمرّة الاولى منذ زمن طويل تحدثت اسرائيل عن دوريات مسلّحة لعناصر مقنّعة من «حزب الله» قرب السياج الحدودي الفاصل، وقالت انّ هذه العناصر تابعة لمجموعة «الرضوان» والمتخصّصة بتجاوز الحدود والقتال في عمق الأراضي التي تخضع للسيطرة الاسرائيلية. واللافت انّ «حزب الله» لم يعلّق على الكلام الاسرائيلي. لكن هذه الرسالة الميدانية تبقى تحت السقف المقبول ولا تصل إلى حدّ تجاوز نقطة اللاعودة. ما يجدّد التأكيد أنّ المقصود هو توجيه رسالة «قوية» ولكن من دون المسّ بالمحظورات، فلا احد يريد تسخين الوضع في لبنان لا اسرائيل ولا حتى «حزب الله».
ومن الرسائل الديبلوماسية والسياسية، النقاط القوية الذي تضمّنها البيان الصادر عن اجتماع اللجنة الخماسية في الدوحة، ولاسيما منها التلويح بالعقوبات على معرقلي انتخاب رئيس للجمهورية.
وكان واضحاً الاتجاه الذي حملته الرسالة، وفي المقابل بدا «الثنائي الشيعي» منزعجاً جداً من بيان اجتماع الدوحة. ولأنّ التسريبات الإعلامية صوّبت لجهة رئيس مجلس النواب في موضوع العقوبات، اختار الرئيس نبيه بري إطلالته الإعلامية عبر وسيلة اعلام اميركية اي عبر قناة «الحرة»، ليشير الى انّ ما يحصل تهويل في غير مكانه.
وفي الوقت نفسه رفع «حزب الله» من مستوى خطابه السياسي. وفي وقت اعتقد البعض انّ ما يجري يُعطي الانطباع بأنّ الامور مقفلة وتتجّه الى مزيد من التأزّم، فإنّ قراءة اخرى اكثر هدوءاً، ترى أنّ تبادل الرسائل الحاصل يوحي بأنّ ثمة ورشة تدور في الكواليس، وتهدف الى ترتيب الوضع وتحديد الأثمان المطلوبة. ووفق هذه القراءة، فإنّ إثارة عودة المفاوض الاميركي آموس هوكشتاين تختزن معاني ايجابية لا سلبية. وصحيح انّ العنوان الموضوع هو البدء بعملية الحفر في البحر، لكن ثمة عنواناً آخر كان قد جرى فتحه أخيراً ويتعلق بملف الحدود البرية، ولو انّ هذه الزيارة قد تكون تمهيدية وتحضيرية لا أكثر. لكن ما كانت هذه الزيارة ليتمّ تحديدها من دون استكشاف مسبق لمناخ «حزب الله» عبر بري. كذلك وعلى الرغم من الرسالة الفعلية التي حملها بيان الخماسية في الدوحة، والتي تتلخص بضرورة انتاج سلطة لبنانية لا تخضع لأي محور اقليمي ولا تقع تحت نفوذ «حزب الله»، فإنّ بعض التسريبات تحدثت عن وجود رغبة بفتح علاقات مباشرة بين «حزب الله» والسعودية، حيث يمكن للحزب التأثير ايجاباً في ملف الحوثيين في اليمن، في مقابل خلق مناخ أفضل للمرحلة المقبلة بينه وبين السعودية. لكن السعودية، والتي تعتبر انّ ملف اليمن يشكّل اختباراً مباشراً للمصالحة مع ايران تحت رعاية الصين، أرسلت للمرّة الاولى اشارة إلى الساحة اللبنانية من خلال جمع النواب السنّة والسعي لإعادة تنظيم صفوفهم النيابية. ما يعني انّ موقفهم في الجلسة المقبلة لانتخاب رئيس للجمهورية سيكون اكثر تنظيماً، وانّ السعودية قد لا تترك «مشاعات» على مستوى النواب السنّة، من الممكن ان تستفيد منها قوى اخرى.
غالب الظن، انّ كل هذه الرسائل المصحوبة بتحرّكات في الكواليس، انما تحضّر الاجواء جيداً للدخول الاميركي المباشر على الخط، والمتوقع في الثلث الاخير من شهر ايلول، حيث من المفترض ان تكون مرحلة «دوزنة» الحضور الايراني قد اخذت مداها، إن في اليمن او سوريا وايضاً في لبنان، وحيث ستتولّى مساعدة وزير الخارجية الاميركية لشؤون الشرق الاوسط باربرا ليف إدارة الملف.