يسود الانطباع في الأوساط السياسية أنّ المبعوث الرئاسي الفرنسي جان إيف لودريان يغرِّد وحيداً وبعيداً عن التنسيق مع الخماسية الدولية والعربية التي يُفترض أنّها كلّفت فرنسا أو أعطتها فرصة لإيجاد مخرج للأزمة المستعصية في لبنان، وهذا ما انعكس في مواقف عدد من النوّاب وفي التعامل مع أسئلته «الحوارية» الموجّهة إلى رئاسة المجلس النيابي لتكون خلاصة تقدير الموقف الراهن عودة باريس للانحياز المتطرّف إلى سليمان فرنجية بعد فشل مناورات التوازن السابقة ما يهدِّد بدخول البلد مرحلة ضغوط وتوتر عالية، ربطاً بالتطوّرات في سوريا والعراق.
يمكن التأكيد أنّ رسائل دبلوماسية عربية صارمة وصلت إلى جميع المعنيين بالشأن السياسي والرئاسي تحديداً، خلاصتُها أنّ لودريان يتحرّك بمفرده وليس باسم مجموعة الخمس وأنّ ما يصل إليه من نتائج غير ملزِم لبقية دولها، وأنّ هذه الدول غير موافقة على المقاربة الفرنسية ولن تغطّيها وخاصة بدعة الرسائل إلى مجلس النواب، وشدّدت الرسائل الدبلوماسية على أنّ الدول العربية تدرك المصالح الواجب تأمينها في لبنان، وأنّ الأولوية هي استعادة الدولة ومكافحة الفساد، غامزة من قناة باريس بأنّها انخرطت في آليات مشبوهة لتأمين مصالحها الخاصة في لبنان، منها التزامات المرفأ وتغطية السدود وغير ذلك.
ذكرت مصادر سياسية أنّ أغلب كتل المعارضة والمستقلين باتوا يعتبرون لودريان أحد مسؤولي الحرس الثوري الإيراني بثياب كريستيان ديور نظراً لكثافة الضغوط التي مارسها لتأمين مصالح «حزب الله» بعد محاولته الفاشلة بالظهور كوسيط نزيه في الأزمة وافتعال الاشتباك الإعلامي مع الحزب في الفترة الماضية، وهو ما سينعكس في مواقف القوى المعارضة أكثر في حال استمرّت الفجاجة الفرنسية في الملف اللبناني.
يُظهر الاستقتال الشيعي للتمسّك بمبادرة لودريان والذي ظهر على ألسنة نواب «حزب الله» وحركة «أمل» بشكل مبالَغٍ فيه حقيقة الواقع الذي وصلنا إليه وهو الالتقاء الفجّ للمصالح الإيرانية والفرنسية في لبنان مقابل رؤية الإصلاح وبناء الدولة التي تحملها بقية الدول التي تشكل الخماسية مع باريس: الولايات المتحدة الأميركية، السعودية، قطر ومصر، وذلك بالتوازي مع صدور تهديدات إعلامية منسوبة إلى لودريان يحذِّر فيها من تداعيات فشل مبادرته على الأوضاع في لبنان.
هذا هو بالضبط ما يجري التركيز عليه في المستوى السياسي والأمني في لبنان والإقليم: ماذا بعد الفشل المتوقّع لمبادرة لودريان؟ وكيف سيكون وضع العلاقة بين أعضاء الخماسية بعودة فرنسا للانحياز المكشوف إلى فرنجية؟ ولماذا الترويج لخضات أمنية كبرى تجتاح البلد بالتوازي مع عودة «حزب الله» إلى استحضار تنظيم «داعش» الإرهابي والزعم أنّه قرّر العودة إلى لبنان؟
الأكيد أنّ الدولة الفرنسية العميقة بأجهزتها الأمنية والدبلوماسية والتي تواجه خسائر متتالية في الشرق الأوسط وأفريقيا، لن تترك لبنان ولن تغادره ليس لأنّه يمثِّل بلد الأرز الذي أنشأه الجنرال غورو واستعمرته باريس كأمٍّ للموارنة، بل كقاعدة انطلاق لمصالحها في المنطقة العربية مع تغيير حاسم في تحالفاتها تمثّل في دعم تحالف الأقليات من لبنان إلى سوريا فالعراق والتحالف الموضوعي مع «حزب الله».
الإنكفاء السني وانكشاف حملة إيران على المسيحيين
كشف الانكفاء السني عن تقدُّم الحملة الإيرانية على المسيحيين في المنطقة، وكان من أخطر فصولها قرار سحب المرسوم الجمهوري الخاص بالكاردينال لويس روفائيل ساكو الذي اتّخذته رئاسة الجمهورية العراقية ومغادرته المقرّ البطريركي في بغداد والتوجّه إلى أحد الأديرة في إقليم كردستان، في خطوة طالت واحدة من أعرق الكنائس في الشرق، وأعطت فكرة واضحة عن كيفية إدارة الأمور في بغداد حيث تبسط طهران سيطرتها على السلطات هناك. وفي لبنان، ظهرت حقيقة الأزمة بين المسيحيين بشكل خاص وبين «حزب الله» وسلاحه وكشفت حادثة الكحّالة أنّه لا بيئة حاضنة لسلاح «الحزب» في لبنان، لكنّ مكمن الخطر الآن هو في التقاء السياستين الفرنسية والإيرانية على إخضاع مسيحيي لبنان لإرادة الحزب، وهذا ما يُخشى أن تكون له انعكاسات ميدانية حامية مع تأكيد القناعات بعدم إمكانية الوصول إلى حلٍّ للأزمة الرئاسية والدستورية والمؤسساتية في وقت قريب. خسرت الدبلوماسية الفرنسية مساحة المناورة المتاحة وعادت الأوضاع الآن إلى الاصطفاف المحلي والإقليمي والدولي الحادّ، بالتوازي مع تطوّراتٍ كبرى يشهدها العراق وسوريا تبرز من خلال مخاطر تقسيم طائفي يؤدي إلى خارطة جديدة في سوريا أولاً، ستكون لها تداعياتها لأنّ باريس متمسّكة بمقاربتها في تعويض إيران بلبنان عن احتمال سقوط الأسد في سوريا وهذه المقاربة ستأخذ طابعاً جدياً مع ازدياد حماوة الأحداث السورية والتحوّلات الناتجة عنها.