لم يكن مفاجئاً لأي من المراقبين الذين تابعوا التحضيرات الجارية لزيارة الموفد الرئاسي الفرنسي جان ايف لودريان لبيروت، ان تصدق معظم توقعاتهم المسبقة بما انتهت اليه قبل عودته إلى بلاده. فما باح به من انطباعات سلبية حول مستقبل لبنان إن بقي بلا رأس قبل نهاية الشهر المقبل، شكّل تطابقاً بين حسابات حقله وبيدره، كنتيجة حتمية بعد خلو جعبته من أي اقتراح، وعدم تلمّسه أي جديد. وعليه، ما الذي يقود إلى هذه الخلاصة؟
شكّلت اللقاءات التي حفل بها برنامج لودريان على مدى الساعات الـ 36 التي أمضاها في لبنان، قناعة ثابتة لا يرقى إليها الشك من أي جانب كان، ومعها الحاجة إلى من يجترح مخارج جديدة لمجموعة العِقد التي تتحكّم بمستقبل اللبنانيين على المستويين الأمني في الجنوب والدستوري في لبنان، في ظل الجدل البيزنطي القائم بين طرفي الأزمة. وهو الذي قاد الى وجود خطين طويلين متقابلين قد لا يلتقيان قريباً، إن لم تأت المبادرات الخفية الجارية في أكثر من عاصمة عربية وغربية بمفاجأة ما في قطاع غزة، تنعكس بالسرعة القصوى التي يتمناها البعض من أصحاب النيات الحسنة والصادقة على الحدود الجنوبية وفي الداخل اللبناني.
ليس في هذه المعادلة ما يثير الاستغراب لأكثر من سبب، فقد كانت كل المؤشرات تقود إلى عدم قدرة لودريان او غيره من الموفدين الدوليين على إحداث اي خرق في جدار الأزمة. فالربط القائم بين استمرار العدوان على غزة والجنوب قبل بلوغ مرحلة البحث في الاستحقاق الرئاسي تعززت في الفترة الأخيرة، وأقفلت الابواب على كثير من الاقتراحات التي سعت إلى الفصل بين إستحقاقين، الأول بوجهه الإقليمي والثاني بوجهه الداخلي إلى أمد غير محسوب. والأخطر انّه لم يعد رهناً باتفاق على وقف اطلاق نار في غزة بل بـ «خريطة طريق» تؤدي الى جعله ثابتاً ومستداماً يكرّسه تفاهم سياسي على اليوم التالي للحرب، بما فيه مستقبل القطاع ومناطق السلطة الفلسطينية بما فيها الضفة الغربية، بعدما تقدّمت الطروحات الخاصة التي تطمح إلى «حل الدولتين» وإقامة الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس الشرقية، والقبول الاسرائيلي بها إن تمّ تجاوز «الفيتو» الأميركي باستحالة البحث في هذه الخطوة خلال هذه المرحلة.
وفي اي حال، وبمعزل عن هذه القراءة الإقليمية والدولية التي تغلّف ما يجري من حراك سياسي، ليس مضموناً بعد انّ لودريان حمل الرسائل عينها إلى جميع الذين التقاهم منذ اللحظة الاولى التي وطأت فيها قدماه الأراضي اللبنانية. وليس في هذه المعادلة تشكيكاً بصدقية الرجل، ولكن جدول لقاءاته وتدرّجها من موعد لآخر وعلى وقع توجّهات من التقاهم، منعته من الاحتفاظ بطرح واحد. ذلك انّ بعضاً من افكاره لم تعد له اي قيمة، وبات عليه ان يتدرّج في طرح أفكاره بطريقة تؤدي الى تظهير الصورة الشاملة التي نوى تشكيلها قبل عودته الى باريس، ووضع التقرير الذي طلبه الرئيس ايمانويل ماكرون منه، وسيشكّل المادة الأساسية في «قمة النورماندي» المنتظرة بينه وبين نظيره الاميركي جو بايدن.
وعليه، فإنّ اللقاء الأول الذي جمع لودريان برئيس الحكومة نجيب ميقاتي بقي في إطار العموميات، فهو ليس معنياً مباشرة بمسألة الترتيبات الخاصة بانتخاب الرئيس. ويتذكّر الجميع انّ لودريان في إحدى زياراته اللبنانية، استثنى عقد اي لقاء معه ومع القيادات الروحية عندما حصرها بالمعنيين بالاستحقاق الرئاسي، من رئيس مجلس النواب الى رؤساء الكتل النيابية. وهو ما أعطى الأهمية للقاءات النيابية بدءاً من لقائه والرئيس السابق للحزب «التقدمي الاشتراكي» وليد جنبلاط ومعه رئيس الحزب تيمور جنبلاط، حيث تناولوا ما استجد من تطورات. ذلك انّ الاتصالات بين الجانبين لم تتوقف ولم تنتظر حضوره الى كليمنصو، فباريس شهدت لقاءات بين جنبلاط وفريق الأزمة الفرنسية المكلّف الوضع في لبنان.
وإلى هذه الملاحظات، فقد شكّل اللقاء الذي جمعه بالمرشح الرئاسي سليمان فرنجية في حضور أعضاء الكتلة النيابية التي يرأسها نجله طوني فرنجية، أولى المحطات التي غاص فيها في أحد ابرز العناوين المطروحة لإدارة الاستحقاق. فكان موقف فرنجية كافياً ليتردّد لودريان من بعده في الحديث عن «الخيار الثالث»، بعدما اكّد فرنجية انّه مستمر في ترشيحه الى النهاية، مكرّراً الحديث عن مبادرته الاخيرة بضرورة مقاربة الاستحقاق من ابواب أخرى تبقيه المرشح الأكثر جدّية في ظل تعدّد المرشحين الآخرين والانتقال من مرشح الى آخر في مواجهته.
ولم يكد لودريان «يجوجل» نتائج لقائه بفرنجية، حتى اكتشف انّ لقاءه الصباحي مع رئيس كتلة «الوفاء للمقاومة» النائب محمد رعد ومن بعده برئيس المجلس النيابي نبيه بري شكّلا امتداداً لما فهمه، وانّ عليه ان ينسى بعضاً من الأفكار التي تراوده قبل ان يبوح بها. فقد سمع كلاماً واضحاً في الضاحية الجنوبية وعين التينة، بعدما أُضيف ملف الحرب في الجنوب إلى لائحة اهتماماته، عدا عن الاستحقاق الدستوري، ومفاده أنّه لا يمكن البحث في هذين الاستحقاقين الأمني والدستوري إلّا من ضمن الشروط الواضحة المرتبطة بضرورة إقفال ملف غزة، قبل الحديث عن تثبيت الحدود الجنوبية وانتخاب الرئيس. فهما سيشكّلان الترجمة العملية للستاتيكو المتوقع والمعادلة التي تنتهي اليها المواجهة القائمة منذ 7 تشرين الأول الماضي، وانّ لا مجال للبحث في اي لقاء حواري او تشاوري لا يديره بري من موقعه الدستوري رئيساً للمجلس النيابي. ولم ينته إلّا الى معادلة بسيطة مكّنته من تحاشي الحديث عن «حوار» واستبداله بـ «التشاور السريع» لا اكثر ولا أقل.
ومن بعد هذه المحطات، تحوّلت لقاءات لودريان الاخرى التي تلاحقت، للبحث في أسئلة وجّهها إلى محدثيه، فكان مستمعاً أكثر مما كان متحدثاً، ذلك أنّه بات ممسكاً ومتيقناً من حجم العِقد التي حالت دون ان يتقدّم بأي اقتراح عملي، بعدما سقطت كل الأفكار التي كان يتداول فيها بينه وبين نفسه. فتركّزت أسئلته حول آلية الخروج من المأزق المخيف. فهو عبّر عن مخاوفه على واقع لبنان ومستقبله بلغة ديبلوماسية فصل فيها – بما معناه – بين «التركيبة اللبنانية الفريدة» التي تميّز لبنان و«المهدّدة» من كل الجهات الكيانية والوطنية والسياسية بما لا يمسّ «الجغرافيا اللبنانية» التي لا يمكن المسّ بها، والتي ستفتقد كل القيم التي تميزها عن مثيلاتها في المنطقة.
ولما استمع لودريان إلى القيادات المعارضة لتوجّهات «الثنائي الشيعي» والتحضيرات من مطبّات عدة لم تحمل جديداً غير معلن عنه، وسبقهم في مخاوفهم، لافتاً الى مخاطر أن يبقى لبنان بلا رئيس للجمهورية على أبواب ما هو متوقع في المنطقة من مؤتمرات وتفاهمات تبني مستقبلها وربما كان جديداً. وجدّد التحذيرات المتكرّرة التي أطلقتها «الخماسية» الديبلوماسية من أجل لبنان، ولفت الى مخاطر ان يبقى الامر على ما هو عليه بحلول الصيف المقبل، بما يؤدي الى انشغال العالم بالاستحقاق الرئاسي الاميركي وعطلة آب الديبلوماسية الدولية، التي ربما شلّت اوروبا واميركا والدول الراعية لمسيرة التهدئة وحصر الحرب الدائرة في غزة، والتي ربما تجاوزت هذا الصيف ومعه محطة الانتخابات الاميركية، إن بقيت المعادلات التي تحكّمت بمفاوضات تبادل الأسرى في غزة مبنية على التصلّب في مواقف الحكومة الإسرائيلية وقيادة «حماس»، في ظل العجز الأميركي والدولي عن القيام بما يجب تحقيقه لحصر الحرب ووضع حدّ لها.
عند هذه المؤشرات تقول المراجع الديبلوماسية والسياسية، انّها لم تكن مخطئة في توقعاتها من زيارة لودريان، وما يمكن ان تنجزه،. وهي وإن كانت ممن لا تتمناها، تركت الباب مفتوحاً امام اي من المفاجآت النادرة وغير المتوقعة إن لم تكن مفقودة، إلى ان يظهر العكس، فتطابقت كل التوقعات مع المستجدات.