فاجأت عودة المبعوث الفرنسي جان إيف لودريان الى بيروت مختلف الأوساط اللبنانية، وقد تكون هذه العودة فاجأته هو أيضاً. ذلك أنّ معظم زوار باريس من اللبنانيين (وهم كثر هذه الأيام) كانوا قد سمعوا منه في وضوح أنّه لن يعود الى لبنان إلّا في حال حصول مستجدات عملية في الملف الرئاسي اللبناني. لكن لودريان عاد من دون حصول مستجدات ومن دون أن يحمل معطيات جديدة. فما الذي حصل فعلاً؟
في الظاهر، تبدو جولة لودريان الجديدة تكراراً مملاً للجولات السابقة. لكن واقع الأمر لا يعكس الرتابة الظاهرة. فعندما طلب الرئيس الفرنسي من ممثله الذهاب في جولة جديدة الى لبنان، لم يكن لودريان هو الوحيد الذي اعترض، بل أيضاً معظم أعضاء الخلية المكلّفة متابعة الملف اللبناني، بحجة أنّها ستزيد من استنزاف الرصيد الفرنسي، طالما أنّ ظروف الحل لم تنضج بعد.
لكن ماكرون أصرّ على موقفه، مشيراً إلى وجود مستجدات تمّ التفاهم حولها مع الرئيس الأميركي وسيجري طرحها في القمّة الأميركية ـ الفرنسية خلال إحياء ذكرى إنزال النورماندي، وكذلك تمّ التمهيد لها أيضاً مع السعودية في الاتصال الذي أجراه ماكرون مع الأمير محمد بن سلمان.
وعلى هذا الأساس حصل تواصل بين لودريان ومستشار الرئيس الأميركي آموس هوكشتاين، تمّ خلاله التفاهم جيداً حول أهداف جولته الجديدة. ولم يخف لودريان ذلك خلال لقاءاته في بيروت، حيث أشار في وضوح الى أنّ زيارته جاءت بتنسيق كامل مع الأميركيين. الواضح أنّ لودريان سيعود بأفكار سيعمل على جوجلتها خلال اجتماعه بهوكشتاين في باريس في الخامس من حزيران، أي قبل يوم من وصول بايدن الى فرنسا.
وهوكشتاين بدوره سيكون قد جهّز ملفه الكامل، بعد أن يكون قد التقى في واشنطن السفيرة الأميركية ليزا جونسون وسمع منها تقييمها الكامل خصوصاً إثر اجتماعاتها التي أجرتها قبل سفرها، وفي طليعتها اجتماعها مع رئيس مجلس النواب نبيه بري. وستكون لجونسون لقاءات أخرى على مستويات عدة خلال وجودها في واشنطن على هامش مشاركتها في المؤتمر السنوي الموسع للسفراء وأيضاً مؤتمر السفراء الإقليمي.
وإذا أضفنا على هذه الحركة الناشطة ولو بصمت في العاصمتين الأميركية والفرنسية، الأسلوب «الهجومي» الجديد الذي عادت به جونسون مطلع أيار الجاري، والذي تمّت ترجمته من خلال بيان الخماسية بعد الإجتماع في عوكر والذي أورد مهلة نهاية أيار، فإنّ الاستنتاج الواضح بأنّ شيئاً ما تجري «خياطته» بين واشنطن وباريس ويتعلق بلبنان وسيُعلن عنه في مناسبة النورماندي.
ولهذا التاريخ وقعه المعنوي القوي على اللبنانيين، حيث جرى منذ 20 عاماً بالتمام والكمال الاتفاق بين جورج دبليو بوش وجاك شيراك على ضرورة انسحاب الجيش السوري من لبنان، وهو ما تحقق بعد أقل من عام.
وماكرون الذي عانى من خسارات متتالية لنفوذ بلاده على الساحات الدولية في مواجهة موسكو، يجد نفسه ملزماً بالتمسّك بأظافره بموقع فرنسا في لبنان، وخصوصاً بأمن فرنسا عند الساحل الشرقي للمتوسط في وجه التمدّد البحري الروسي، وهو ما تتقاطع عليه باريس وواشنطن.
وفي نظرة تاريخية خاطفة يظهر أنّه منذ العام 1997 (عناقيد الغضب) وحتى تاريخنا هذا، فإنّ كل الإتفاقات التي حصلت جاءت بمبادرة فرنسية حظيت بعدها على مباركة واشنطن ودعمها. أضف الى ذلك أنّ الظروف تدفع في اتجاه إنجاز الحلول للبنان.
وكان مقلقاً ما يتردّد همساً من أنّ هنالك من يعمل جدّياً على دفع الإنتخابات الرئاسية الى العام 2026، أي بعد إجراء انتخابات نيابية يكون هدفها الحقيقي إدخال تعديلات جوهرية على النظام السياسي ونسف المعادلة القائمة بعد نشر مزيد من الفوضى. ومن هنا يمكن تفسير «تحذير» لودريان حول زوال لبنان السياسي.
وخلال المراحل الماضية سادت تسريبات عن احتمال تعرّض بري لعقوبات دولية. ولكن المفارقة أنّ الأوساط الأميركية كانت تعمد إلى نفي هذه الأخبار. لكن ثمة من يعتقد أنّ هذا التلويح لم يأتِ من فراغ وأنّ اللعبة في المنطقة تأخذ طابع «لعبة الأمم»، ما يعني أنّها أخطر وأخبث مما تظهر عليه الصورة.
فالنزاع العنيف الدائر في المنطقة وصل إلى حدود لم يتوقعها أحد قبل الآن بين الإدارة الأميركية والحكومة الإسرائيلية. وهو ما يعني أنّ الخطوط الحمر في الشرق الأوسط لم تعد في مستواها السابق.
من جهته، فإنّ مَن تواصل مع هوكشتاين فهم منه أنّ الإطار العام للحل في جنوب لبنان تمّ التفاهم حوله، لكن ربط وقف إطلاق النار بغزة يجعل الوضع مقلقاً وغير مضمون. فإسرائيل و»حزب الله»، في رأي هوكشتاين، يناوران بتهور وصولاً الى حافة الهاوية، وهذا وضع محفوف بالمخاطر.
وتردّد أنّ رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو، والذي زاد من زياراته للمنطقة القريبة من الحدود مع لبنان، أبلغ الى واشنطن أنّه مصرّ على المنطقة العازلة في الجانب اللبناني ولو بقوة التدمير، وأنّه لن يقبل بإعادة إعمار ما تهدّم إلّا بعد إقرار اتفاق ببنود واضحة.
لكن المشهد لا يبدو بهذه السوداوية على المستوى الأميركي ـ الإيراني. صحيح أنّ طهران أرسلت رسالة تصعيدية من خلال توزيع صورة لاجتماع قائد الحرس الثوري الايراني وقائد «فيلق القدس» مع قادة محور المقاومة ضمّ الحوثيين و»حزب الله» وحركتي «حماس» و»الجهاد الإسلامي» وحتى «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين»، لكن واشنطن منعت الدول الأوروبية الثلاث من استصدار قرار من الوكالة الدولية للطاقة الذرية يدين إيران.
وفي المقابل، فإنّ الحديث عن عودة علي شمخاني الى تسلّم الملف النووي يُعتبر خطوة إيرانية مرنة. لكن المعيار الحقيقي لاستكشاف نيات مرشد الثورة الخارجية سيكون من خلال مسار الانتخابات الرئاسية الإيرانية.
لكن العقبة الحقيقية والكبرى في وجه بايدن تبقى في نيات نتنياهو، الذي يبدو أنّه يريد إطالة أمد الحرب تحت ذرائع شتى، في وقت يبدو أنّه بات «يلعب» في ملعب الانتخابات الرئاسية الاميركية لمصلحة ترامب. فمثلاً بدا رافضاً لأي نتيجة سيحملها مستشار الأمن القومي الأميركي حتى قبل أن تطأ قدماه إسرائيل. قد يكون نتنياهو يريد حرمان إدارة بايدن ورقة التطبيع مع السعودية قبل الإنتخابات، في وقت تبدو فيها إدارة بايدن في حاجة الى إنجاز اتفاق ثلاثي أميركي ـ اسرائيلي ـ سعودي، ما سيمنحها دفعاً انتخابياً هي بأمسّ الحاجة إليه.
وهنا يأتي السؤال: هل من المنطقي أن تتجاوب إيران ومن خلفها «حزب الله» مع إدارة بايدن الضعيفة والمرشحة لأن تخسر الإنتخابات، وهو ما يجعل ما سيصدر عن القمة الأميركية ـ الفرنسية غير ذي فائدة؟
والجواب هو نعم، لأنّ بديل بايدن هو ترامب المعروفة سياسته في الشرق الأوسط، فكيف إذاً مع اتفاق مسبق حاصل مع نتنياهو؟
فالجمهوريون متحمسون جداً لإسرائيل. تكفي تلك الصورة لممثلة الولايات المتحدة السابقة في الامم المتحدة نيكي هايلي وهي تكتب على قذيفة موجّهة ضدّ «حزب الله». الرسالة كانت واضحة.
وثمة جواب ثانٍ على السؤال نفسه، وهو أنّ لبنان قد يشكّل مساحة تقاطع وتفاهم بين واشنطن وتل أبيب، طالما أنّ الخلاف هو سيّد الموقف في غزة. ومنذ نحو أسبوعين أبلغ نائب مساعد وزير الخارجية الأميركي إيتان غولدريتش الى لبنان رسمياً، أنّ إدارته لا تربط بين اتفاق الحدود وانتخابات الرئاسة «فهما مسألتان منفصلتان». وأضاف: «واشنطن لا تقول إنّها لن تتعامل مع أي رئيس منتخب فيما لو كانت توجّهاته لا تتوافق مع توجّهاتها لأي سبب كان، إلّا أنّ التعامل مع رئيس لا يستوفي الشروط سيكون صعباً. واضح ما عناه غولدريتش من خلال عباراته الديبلوماسية.
صحيحٌ أنّ إدارة بايدن تظهر في مظهر ضعيف في غزة، لكن النزاع الإنتخابي الأميركي كبير لا بل خطير، ويصبح معه في بعض الأحيان الضعيف أكثر شراسة في بحثه عن قارب للنجاة.