احتار الفرنسيون ماذا يفعلون في لبنان. استنتجوا أنّهم «لا مع ستي بخير ولا مع سيدي بخير». ولذلك، اكتفى جان إيف لودريان بجولة «استماع» و«استمتاع». وإلى أن يعود في جولة ثانية «الله بيفرجها».
ثمة تحول استراتيجي في السياسة الفرنسية تجاه لبنان، على مدى نصف القرن المنصرم.
ففي نهاية ثمانينات القرن الفائت، شارك الفرنسيون في إبرام «اتفاق الطائف»، بشراكة الولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية. وفيه تمّ تسليم الرئيس السوري حافظ الأسد امتيازاً ثميناً هو رعاية الوضع في لبنان، على طريقته، ولكن ضمن ضوابط معينة.
في التطبيق، قضى الاتفاق ضمناً، بين دمشق والرياض، بإقامة التوازن في إدارة البلد، تمّت ترجمته كالآتي: تتحكّم دمشق بالسياسة والأمن مباشرة ومن خلال حلفائها، وأبرزهم «حزب الله». وفي الموازاة، تأخذ الرياض على عاتقها، من خلال رجلها الأول في لبنان، الرئيس رفيق الحريري، مسائل المال والاقتصاد والإنماء. وفي أي حال، لا يتدخّل هذا في شأن ذاك.
لكن الحريري كان آنذاك رجل فرنسا المدلّل أيضاً، والصديق الشخصي لرئيسها جاك شيراك. ولذلك، حرصت باريس على صون التسوية بدقّة. فأقامت أوثق العلاقات مع دمشق ونسّقت مع أجهزتها، وفتحت كل الخطوط مع الحكومة اللبنانية التي يرئسها الحريري، ومنحته ما تستطيع من حماية ودعم.
آنذاك، كان يحصل التحوّل الاستراتيجي الأول في السياسة الفرنسية تجاه لبنان. وانتقلت باريس من اعتبار لبنان ركيزتها الشرق أوسطية الأولى، من خلال المسيحيين والموارنة خصوصاً، وعبر رئاسة الجمهورية والجيش، إلى رئاسة الحكومة والزعامة السنّية الأولى.
في تلك المرحلة، احتضنت فرنسا منفى العماد ميشال عون، وبذلت الجهد لمراعاة بكركي التي شكت كثيراً من تهميش الشريك المسيحي، لكن فرنسا استجابت في النهاية لمقتضيات المصلحة، وبقيت أولويتها ثنائية دمشق- الحريري.
في العمق، قرّرت فرنسا أن تبدّل أولوياتها في لبنان. فعندما كانت «الأم الحنون» للموارنة، كان المسيحيون هم الأقوى في لبنان. وللدقة أيضاً، كان المسيحيون أقوياء في لبنان لأنّ فرنسا منحتهم الامتيازات على أنواعها في «لبنان الكبير» والاستقلال. وعندما أصبح الحريري هو الأقوى في لعبة المصالح، وبالشراكة مع دمشق، وجد الفرنسيون أنّ الأجدى لهم ركوب الموجة، واعتماد القيادة السنّية كأولوية تحالفية في لبنان بدل القيادة المسيحية.
ولكن، منذ العام 2005، تبدّلت المعادلة: تمّ إخراج الحريري الأب ليدخل الابن إلى ساحة العراك اللبناني، فيما الأسد الابن الذي خلف الوالد خرج منها. وفي تلك الفترة، بقي الفرنسيون على رهانهم. وفي اعتقادهم أنّ الرئيس سعد الحريري سيتمكن من سدّ الثغرة وتستقيم المعادلة السابقة.
هذا الرهان سقط. فالمملكة العربية السعودية، في عهدها الجديد، بدّلت في توجّهاتها اللبنانية. وانسحب الحريري من اللعبة تحت وطأة الضربات الموجعة، وباتت الطائفة السنّية بلا قيادة سياسية رئيسية. وفي ظلّ الاتفاق السعودي – الإيراني وانفتاح العرب على الأسد، بات على الفرنسيين أن يقوموا بتحوّل استراتيجي جديد في لبنان.
استنتج الفرنسيون اليوم أنّ السلطة الحقيقية موجودة في يد «حزب الله»، وأنّ أحداً لن يستطيع انتزاعها منه في المدى المنظور. واكتشفوا أنّ الولايات المتحدة لم تستطع أن تبرم اتفاق ترسيم الحدود البحرية مع إسرائيل إلاّ عندما وضعت اليد في يد «الحزب»، بالمعنى العميق للعبارة. لذلك، وجد الفرنسيون أنّ مصلحتهم الحقيقية هي مراضاة الطرف الشيعي، و»حزب الله» تحديداً، بدل الرهان القديم على المسيحيين أو السنّة.
لا يعني ذلك أنّ باريس تؤيّد تسوية تناسب «الحزب» وتؤدي إلى عزل الآخرين تماماً، لكنها تفضّل الانطلاق من تسوية يرضى بها «حزب الله» أساساً، ثم يجري إقناع المسيحيين والسنّة بها. وهذا تماماً ما سيحاول لودريان أن يفعله في جولاته المكوكية في لبنان.
يعني ذلك أنّ الرجل لن «يزعّل» «الحزب» إطلاقاً، أياً كانت ظروف المفاوضات ونتائجها. وعلى الآخرين أن يقتنعوا بالتسوية، وأن «يتواضعوا»، فلا يذهبوا بعيداً في مطالبهم، لأنّ القوي هو الذي يفرض التسويات في نهاية المطاف.
إنّها «البراغماتية»، والبعض يقول إنّها «الماكيافيلية»، تمارسها فرنسا في لبنان. وكانت الفكرة القديمة أنّ هاتين السمتين هما من خصائص السياسة الأميركية حصراً.
فرنسا 2023 ليست هي نفسها فرنسا المسيحيين من لبنان الكبير 1920 إلى اتفاق الطائف 1989، ولا فرنسا رفيق وسعد الحريري من 1992 إلى 2019. إنّها فرنسا التفاهمات الإقليمية والدولية الجديدة والمرتقبة، و»حزب الله» جزء منها. أي، من المسيحيين إلى السنّة إلى الشيعة. ومن هنا، يبدأ التفكير باحتمالات التسوية الرئاسية التي يعمل لها لودريان.