لن يطول الوقت كي ينسى اللبنانيون الاهتمام الزائد المعطى لزيارة جان ايف لودريان لبيروت، وان وعد برحلة ثانية. ليس ما سمعه من القيادات هو المحتوى كله. بل ايضاً الكثير من الخيبات التي لمسها من محدثيه غير المستعدين في الوقت الحاضر لأي تسوية
خلّفت مهمة الموفد الرئاسي الفرنسي جان ايف لودريان الى لبنان، غير المنتهية بعد، الكثير من اسباب طرح علامات استفهام وملاحظات حيال ما يُنتظر من جولتها المقبلة. ليست مشكلتها في الجدية الموصوف بها الزائر مقدار النتائج المتوخاة بعد انتهاء الفصول التالية. في نهاية المطاف اتى وغادر كأن شيئاً لم يحدث:
اولى علامات الاستفهام تلك سبقت وصول لودريان الى بيروت، هي توزّع الدوائر الفرنسية المكلفة ملف الرئاسة اللبنانية على اربع جهات رسمية على الاقل: الاليزيه والخارجية والاستخبارات والسفارة في بيروت. لكل من هذه – وان تقاطعت لديها المعلومات والتحليلات حيال مأزق الاستحقاق – مقاربتها المختلفة عن الاخرى مرتبطة بأسلوب عملها من جهة، وبتقديرها المختلف ما بينها لمكامن المصلحة الفرنسية في قيادة مبادرة انتخاب الرئيس اللبناني من جهة اخرى. ليس مشهوداً لباريس مهارتها وحرفيتها، كالاميركيين على الاقل، في ادارة انتخابات الرئاسة اللبنانية مرة. تكاد المرة الوحيدة رامت التدخل فيها كانت عام 2007 قبيل انتهاء ولاية الرئيس اميل لحود وغداتها من خلال وزير خارجيتها برنار كوشنير، وتوزع المهمات بينه وقصر الاليزيه برجليْه النافذين لدى الرئيس نيكولا ساركوزي كلود غيان وجان دافيد ليفيت، لاحقاً انضم اليهما السفير جان كلود كوسران. انتهى المطاف بمبادرة 2007 الى اخفاقها واحراج البطريرك الماروني الراحل مارنصرالله بطرس صفير بوضع لائحة بمرشحين موارنة قفز من فوقها الفريق الآخر ولم يسع باريس انقاذها. لم يُنتخب الرئيس عام 2008 الا بعدما كُسر توازن القوى القائم وقتذاك بين فريقيْ 8 و14 آذار على اثر احداث 7 ايار.
على نحو غير بعيد يُعيد لودريان بعث الروح في دور كوشنير الذي تنقل حينذاك بين القيادات وعاد الى بلاده بخفي حنين.
ثانيها، لم يكن خافياً على مسؤولين وقيادات لبنانية ان يسمعوا من لودريان اهتماماً بحوار وطني لم تتحمس له السفيرة آن غريو كلما فوتحت به قبل مجيئه خصوصاً. تحدثت اكثر من مرة عن عدم رغبة بلادها في الغرق في «الوحول» اللبنانية، في اشارة صريحة الى الانقسامات الداخلية العميقة. فضّلت اكثر من مرة ايضاً – اذا كان لا بد من حوار اولي – ان لا يتناول برنامجاً سياسياً تفصيلياً يُرغَم الرئيس على تنفيذه او يقترحه هو لقاء انتخابه. اظهرت لمَن تحدث اليها المامها بالنطاق المحدود للصلاحيات الدستورية للرئيس اللبناني بما لا يمكنه من وضع برنامج وفرض تطبيقه. لكنها قالت بأن المستحسن «خريطة طريق لاربعة او خمسة عناوين عريضة يتوافر الاتفاق عليها». فرّقت بين البرنامج وخريطة الطريق، ولاحظت ان الآليات الدستورية تسهّل الثانية وتعرقل الاول.
ما اثار اهتمام غريو قولها امام محدّثيها ان مشكلة الحوار الوطني تكمن في مشكلات ثلاث متلازمة: جدول اعماله يصعب توحيده عند الافرقاء جميعاً وكلٌ يدير ظهره للآخر، لا مرجع موثوقاً به يدير الحوار بعدما نأى الرئيس نبيه برّي ثم البطريرك الماروني ماربشارة بطرس الراعي بنفسيهما عن قيادته كلٌ لاسباب مختلفة. قالت غريو ان المكان الطبيعي المفترض للحوار هو مجلس النواب «الا ان رئيسه يعدّ نفسه طرفاً ولا يستطيع ان يكون حكماً فيه». ثالثة الاثافي التي تحول دون التئام طاولة الحوار تقيم، في حسبان السفيرة، في ان اللبنانيين «غير قادرين» – في معرض تأكيد انهم «غير صالحين» – على الحوار.
خلال جولاته على القيادات قال لودريان كلاماً مشابهاً: «الاستقطاب الحالي يمنع حصول الحوار».
ثالثها، لم تبُن تماماً المعايير التي اعتمدها الموفد الفرنسي في لقاءاته القيادات المسيحية ما خلا البطريرك الماروني: ان يستقبل النائب السابق سليمان فرنجية في قصر الصنوبر ويتغديا معاً، ويزور رئيس التيار الوطني الحر النائب جبران باسيل في البياضة ورئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع في معراب وقائد الجيش العماد جوزف عون في اليرزة، ويدعو رئيس حزب الكتائب النائب سامي الجميّل الى قصر الصنوبر وكذلك نواباً ومرشحين. ان يخرج كلٌ من هؤلاء بانطباعات وتأويلات لا تماثل الآخر. ان يعدّ بينهم زيارة اليرزة الاهم والحاسمة كأنها كرّست قائد الجيش مرشحاً اول اكثر من ذي قبل، او يفصح مرشحون عن ارتياحهم الى ما سمعوه عزز ثقتهم بأنفسهم وبحظوظ التوصل في وقت ما الى مرشح ثالث، او تتباين ردود الفعل حيال الموقف الفرنسي من دعم ترشيح فرنجية.
لم يسمع اي من هؤلاء تزكية لودريان – ولا هي مهمته – اي مرشح، بيد ان بين الخارجين من اللقاءات مَن لم يلمس تخلي فرنسا عن فرنجية، ولا التعبير في المقابل عن حماستها العلنية على نحو موقفها المعروف. بعض هؤلاء لفتته عبارة لودريان، وهو يصف جلسة 14 حزيران، بأن التصويت كأنه استفزاز للمبادرة الفرنسية واستهدافها، على ان ما حدث – في استنتاج هؤلاء – ليس كافياً لاطفائها، والمقصود بذلك التراجع عن تأييد فرنجية.
رابعها، صحة ما قيل انه كان في صلب حوار لودريان مع رئيس كتلة نواب حزب الله النائب محمد رعد. بعض ما تردد قول رعد ان الاستحقاق الرئاسي ليس مجرد اتفاق على اسم او انتخاب الرئيس. ينظر حزب الله اليه، وهو يتمسك بفرنجية ولا يرى لنفسه بديلاً منه، على انه مرتبط بمصير السلطات اللبنانية كلها في العهد المقبل. وجود رئيس جمهورية حليف للحزب غير كاف كي يطمئن الى موقعه في المعادلة من دون ان يكون شريكاً فعلياً في الحكم، ومن دون ان يُستشم من الموقف هذا سعي حزب الله الى اعادة النظر في اتفاق الطائف. على نحو مكمل لما اعتاد ان يدلي به برّي في أحاديثه الدائمة في استحقاقات الرئاسة بربط العهد الجديد بسلة تفاهمات، يقارب حزب الله الوصول الى انتخاب رئيس للجمهورية مع سلسلة اجراءات في بناء السلطات الجديدة بما يكفل مشاركته الفعلية من داخلها.