جاءت الانتفاضات العربية مؤخراً لتكشف مدى تفاقم أزمة حركة التحرّر العربية وضعف اليسار في مقاربة الواقع والتفاعل معه والتأثير فيه. وازداد هذا الانكشاف عندما تسنّى للقوى الإمبريالية النفاذ إلى كلّ مكوّنات البلدان العربية ـ دولاً وحكومات وجيوشاً ـ بهدف دعم الثورات المضادة وتقطيع أوصال الدول العربية وتفكيكها من خلال الرعاية المباشرة للمنظمات الإرهابية وإنتاج الفوضى الشاملة التي باتت تضع مصير كلّ هذه البلدان على المحك. وإن دلت هذه الأحداث على شيء، فإنما هي تدلّ على غياب استراتيجية يسارية عربية للتغيير الديموقراطي، تتيح لليسار فهم الواقع وتناقضاته واستشراف آفاق الخروج الفعلي من مأزقه المستفحل.
إنها فرصة لدعوة كافة القوى اليسارية العربية، وفي مقدّمتها الأحزاب الشيوعية، للتعاطي بروح نقدية عالية مع الممارسة التي خاضتها حتى الآن، من أجل تجاوز الفجوات والاختناقات السابقة وفتح الباب أمام دور جديد تقتنع به شعوبنا وتنحاز إليه، داعين إلى التوقف بشكل خاص عند ما يلي:
أولاً- إن إحاطة اليسار بواقع البنية السياسية والاجتماعية العربية كأساس لصياغة البرامج والفعاليات النضالية لم تكن، ولا هي الآن، كافية لتحقيق هذه المهمة. فغالباً ما يجري الحديث عن التبعية كسبب رئيسي لواقع التخلف من دون الغوص في مضمونها وآلياتها، من حيث هي بنية علاقات تحكم ربط بلداننا العربية بالرأسمالية الإمبريالية، الأمر الذي يحول دون التحديد الدقيق لتناقضات البنية الاجتماعية العربية، ولطبيعة الصراعات الدائرة فيها، ولدور الأنظمة السياسية الاستبدادية ووظيفة الكيان الصهيوني في تأبيد هذه التبعية.
ثانياً- إن النقص في إنتاج اليسار لهذه المعرفة يعود في جانب منه إلى العلاقة غير السويّة بالخلفية الفكرية لليسار الماركسي، التي تمّ التعاطي معها بنوع من الاقتباس والاختزال، بدل أن يكون هذه التعاطي خلاّقاً ومبدعاً، بحيث تستمد الماركسية شرعيتها ليس من النصوص التاريخية المتوارثة فقط، بل من خلال إثبات القدرة الفعلية على تمييزها في حقل الصراعات السياسية والاجتماعية الفعلية، وبالتالي على تقديم إجابات واضحة ومحدّدة وراهنة على الأسئلة الوطنية الكبرى التي يطرحها الواقع الملموس في عالم شديد التغيّر.
ثالثاً ـ على الرغم من كل الأبعاد الإنسانية والوطنية التي تضمّنتها البرامج السياسية للقوى اليسارية العربية، فإن هذه القوى لم تثبت جدارة كافية في استمالة الفئات الشعبية الكادحة، صاحبة المصلحة في تحقيق تلك البرامج. وانعكس هذا الواقع في ضعف انخراط اليسار في الأطر النقابية والعمالية والشبابية والنسائية والديموقراطية على وجه العموم، مما حال دون تمكّنه من تحويل برامجه إلى ثقافة سياسية شعبية يتسلّح بها أصحاب المصلحة، فتعزّز ثقتهم بهذه الأطر وتحفّز بالتالي النضال من خلالها.
غير أنه من الإجحاف الاستمرار في توصيف قصور اليسار خارج الظروف الموضوعية التي يعمل في ظلها. ونقصد هنا طبيعة البنية الاجتماعية العربية وما يشوبها من ضعف في آليات التفارق الطبقي وطغيان في دور التوظيف السياسي للموروث الثقافي القائم على تأويل النصوص في خدمة «الحاكم»، وبالتالي من صعوبة في تأطير الفئات ذات المصلحة في التغيير السياسي والاجتماعي، ناهيك عن حجم التدخلات الإمبريالية غير المسبوق ومحاولات فرض واقع التجزئة على الأمة الواحدة. فاليسار العربي لا بدّ من أن يأخذ بالاعتبار دور العلاقات الاجتماعية التقليدية في تشجيع وإرساء وعي وممارسات ما قبل حداثية، في الوقت الذي تنتقل فيه البشرية إلى طور جديد من العولمة المتوحّشة، مع ما تمليه من سياسات استعمارية جديدة. ومن المؤكد أن هذه العوامل قد انطوت على صعوبات وتعقيدات جمّة أعاقت عمل اليسار ومسيرته النضالية.
إن هذا الواقع يضاعف من حجم ونوع مهمات القوى اليسارية والجهد المطلوب منها لمواجهة تحديات المرحلة الراهنة، المتمثلة في تصاعد الهجمة الإمبريالية على بلادنا وفي خيانة الأنظمة الاستبدادية الرجعية الحاضنة للإرهاب بأشكاله المتنوّعة. ويقف اليسار العربي اليوم أمام مفترق طرق حاسم: فإما أن ينجح أعداء أمتنا في الداخل والخارج في تفتيت العالم العربي، فيفرضون خارطة جديدة للمنطقة تؤبّد تبعيتها وتعيد إنتاج أشكال من الاستعمار المباشر بأسلوب عبودي جديد، وإما أن يستنهض اليسار كتلة شعبية وطنية خارقة للعصبيات والهويات الضيّقة، ويقودها بالتحالف مع القوى الوطنية والديموقراطية في إطار جبهة عربية تقدمية تتصدّى لهذا الواقع المرير المتجه أكثر فأكثر نحو التمزّق والتشظي.
ونعتقد أن بإمكان اليسار، وهو يواجه هذا التحدي، أن يشكل رافعة لإطلاق هذا المسار المتجدّد في الرؤية والمعرفة وصياغة البرامج والخطط والشعارات، وفي بناء الأطر الشعبية والتحالفات الطبقية والديموقراطية المطلوبة، وفي الجمع بين وجهَيْ التحرر: القومي والوطني من جهة، والاقتصادي الاجتماعي من جهة ثانية، بهدف إسقاط الأنظمة الرجعية وآليات التبعية، وإقامة حكم وطني ديموقراطي يحقق مصالح الناس ويقاوم الاحتلال ومشاريع الهيمنة الإمبريالية.
ونحن نرى أن منطلق ذلك يكون عبر ترسيخ مقومات المقاومة العربية الشاملة، بالمعنى الواسع لمفهوم المقاومة، بالاستناد إلى ما شكلته الانتفاضات الشعبية العربية كحالة نوعية معبّرة عن استعداد شعوبنا العربية لخوض معارك التحرّر الاجتماعي والوطني والتخلّص من أنظمة الفساد والقمع والإسهام في بلورة حركة وطنية عربية من نوع جديد تستلهم فهماً أكثر تقدماً وديمقراطية وحداثة لمفهوم العروبة (…).
ولأن ما نشهده في بلادنا قائم، وإن بأشكال أخرى متنوعة، في كافة البلدان التابعة ـ في آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية ـ فحريّ باليسار العربي، وهو يخوض هذه المعركة، أن يعمل بثبات وانفتاح على تعزيز أطر التواصل والدعم المتبادل وممارسة كل أشكال التضامن والتنسيق المشترك بين الأحزاب اليسارية والحركات المناهضة للعولمة المتوحّشة، والإفادة أيضاً من كل التناقضات والصراعات الدولية في هذه المرحلة الانتقالية الممهّدة لقيام عالم متعدد الأقطاب. فمثل هذا الانفتاح يوفّر لليسار العربي أحد شروط نجاح مقاومته الشاملة، ويسهم عملياً في إنضاج أممية جديدة في مواجهة الرأسمالية المعولمة.
في اختصار، إن شعوبنا العربية ـ لا سيما في البلدان الملتهبة كفلسطين وسوريا ولبنان والعراق واليمن ـ بحاجة إلى يسار عربي «عالسمع» ينخرط عضوياً في حركة مقاومة عربية شاملة تعيد إلى هذه الشعوب الثقة بالنفس، وتعزّز مسارها نحو بناء دول وطنية ديموقراطية مقاومة تمهّد السبيل أمام الاتجاه نحو الوحدة. والانخراط في هذا المسار، هو بالتحديد ما يتيح لليسار أن يعالج أزمته وأزمة أحزابه.