في رحيل الفنانة صباح والشاعر سعيد عقل ما من شأنه إعادة تذكير اللبنانيين بأهمية عنصر لا يقصّرون عندما تلوح لهم نافذة المكابرة عليه، وهو عامل الوقت.
المكابرة على الوقت جسّدتها الفنانة والشاعر الراحلان، بالإيجاب وبالسلب، جسمانيّاً وإبداعيّاً، وبالموقع الذي سيتخذه كل منهما في المجمّع الكبير، أو المعتقل الكبير، الذي اسمه عالم المشهد، هذا العالم الذي قامت الكيانية اللبنانية ببنائه كمسرح ذهني تقام خشبته الافتراضية في ذهن الكثيرين منا، فتتحرّك عليه، أو تتجمّد الشخصيات المؤسطَرة، أو المؤسطِرة لذاتها، إلى أن يعصف بها الموت، ومنها إلى ما بعد الموت بأجيال.
نودّع صباح وسعيد عقل في وقت يباشر فيه العدّ العكسيّ لمئوية تأسيس الكيان بتدبير من الجنرال غورو، وهو الاستحقاق القادم بعد ست سنوات. القرن العشرون يبتعد عنا يوماً بعد يوم، ولا يبدو أن البلد متحضّر كفاية، لا سياسياً ولا اقتصادياً أو اجتماعياً أو ثقافياً أو فنياً للابتعاد عنه، وعن إحدى الإحالتين: فإما الإحالة «اللانقديّة»، لفترة لبنان «الذهبية» قبل الحرب، وإما الاحالة «المحتقنة»، من خلال التوظيفات المحمومة والاستهلاكية الرثّة للحظات أليمة من تاريخ الحرب.
وقبل المئوية القادمة، مئوية تأسيس لبنان الكبير، يتزامن وداع الفنانة والشاعر، الراكزين في الذاكرة الكيانية اللبنانية بسجلين مختلفين من العلاقة مع الجوار، مع مئوية توديع لبنان آخر، لبنان المتصرفية، الذي نقض بروتوكوله جمال باشا في مثل هذه الأيّام قبل مئة عام بالتمام والكمال.
وإذا كانت مئوية نقض جمال باشا لبروتوكول متصرفية جبل لبنان، وما سيلحق بالجبل وأبنائه، لا سيما الموارنة في أثرها، لم تنل، عشر ما تناله كل الوقائع المتصلة بالحرب الكبرى في غير مكان من عالم اليوم من إعادة تسليط ضوء، ومقاربات جديدة، فهذا بحدّ ذاته مؤشّر على حال بلد تطغى على إيقاعه اليومي، إما نوستالجيا بليدة لما قبل الحرب، وإما نوبات استرجاعية لأحقاد من فترة الحرب.
صباح، المتحرّكة، بطيبة، بين لهجتين، لبنانية جبلية ومصرية، وسعيد عقل، المتحرّك، أدائياً، بين لغة عربية جعلها بنته بدل أن تكون لغته الأم، وبين لهجة عامية، اصطفى منها إيقاعاً بعينه، لجعله لغة قائمة بذاتها، مكيّفاً لها الحرف اللاتيني. صباح، القادمة من قلب جبل لبنان. سعيد عقل، الناشئ في عقدة الوصل بين الجبل والسهل، زحلة، التي كانت تشطرها حدود المتصرفية نصفين. سعيد عقل أكثر رموز لبنان الثقافية ما قبل الحرب انخراطاً في ثقافة الحرب، وصباح، التي تجاهلت بدورات حياتها الشخصية الحرب الأهلية من ألفها الى يائها. إنّه الزمن الذي يمضي. إنه عامل الوقت. رحلا في الذكرى المئوية الأولى لنقض جمال باشا بروتوكول جبل لبنان. رحلا في وقت يظهر فيه جلياً أن الكيانية الوطنية الصالحة لقرننا الحالي تتأمّن بالتركيز على قرننا البادئ، والتحكّم بالنوستالجيات الوديعة منها والعنيفة، التي لا تنفك تلتهم ثم تعيد التهام، ذاكرة الأجيال المنصرمة، من القرن الماضي.