لعل أكثر ما يميّز اليسار والشيوعيين في مقاومتهم لما تسمّى «الهزائم الكبرى»، هو شمولية مشروعهم المقاوم، وخصوصاً إصرارهم على البعد الاجتماعي والطبقي لمقاومتهم، فكان تركيزهم في نقد قيادة حركة التحرر الوطني العربية، على انحيازها في المرحلة التي تلت وفاة جمال عبد الناصر وهزيمة العام 1967 لمصلحة الفئات البرجوازية وضربها أسس الاقتصاد الوطني وبالتالي انزلاقها المتسارع باتجاه التبعية للمشروع الامبريالي.
وكذلك في لبنان، ومع إطلاق «جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية ضد الاحتلال الإسرائيلي»، رفض الشيوعيون نتائج هزيمة العام 1982، وبالتالي رفعوا شعاراً للمقاومة، ينطلق من تحليلهم لأسباب الهزيمة ومسؤولية النظام البرجوازي – الطائفي عنها. ومن هذا التحليل انبثق شعار «الأرض لمن يحرّرها» والمقصود هنا كان أن الأرض للفقراء الذين يدفعون الدم لتحرير الجنوب. وكذلك تركيزهم على كلية مشروع المقاومة، بترابط ركني التحرير والتغيير الديموقراطي.
ولقد جاء اتفاق الطائف، في ظل انهيار المنظومة الاشتراكية من جهة ورجحان كفة الرجعية العربية من جهة ثانية، ليعلن هزيمة المشروع الوطني الديموقراطي الذي حمله الشهيد كمال جنبلاط واليسار اللبناني.
وهذه الهزيمة لا تعني خطأ الشعارات والمشروع، بل ان موازين القوى هزمت المشروع الديموقراطي لمصلحة مشروع جديد للبرجوازية اللبنانية المتحالفة مع زعامات الطوائف والقوى الإقليمية والدولية الفاعلة (التقاطع الأميركي ـ السعودي والسوري).
ومع هزيمة المشروع الوطني، تمّ ضرب أفق المقاومة الوطنية، كحركة تحرير مرتبطة بالتغيير الديموقراطي وبالتمثيل الاجتماعي لمصلحة الفقراء، ما أفسح المجال أمام مشروع مقاوم قادر على التأقلم مع النظام الطائفي ومع الصراعات الإقليمية ومحاورها.
نعم «انفخت الدفّ (اليساري) وتفرق العشاق». فعندما يفقد مشروع ما ثقله وبرنامجه «ومشروعيته» وقدرته على الاستقطاب، تحل محله المشاريع البديلة. ذهب البعض باتجاه التعامل مع الموازين المستجدة، حتى أن قسماً من المفكرين اللبنانيين واليساريين، ذهب بعيداً في التغطية والتعامل الواقعي مع المشروع الإمبريالي من العراق الى سوريا ولبنان وفلسطين. وذهب قسم آخر الى حد توصيف التقاطع مع مشروع المقاومة الآخر، وكأنه استمرار لمشروع المقاومة الوطنية، مقللاً من أهمية العوامل المتشابكة سياسياً واجتماعياً التي ميّزت مشروع المقاومة الوطنية.
ما الذي استجدّ؟
الموضوع لا علاقة له بالخيارات الذاتية. فعندما انهارت المنظومة الاشتراكية، انهار معها الأفق والحلم بالتغيير في كل أصقاع الأرض. وراح البعض يفتش عن الحلم والأفق في أماكن أخرى.
أما اليوم ومع تطورات أميركا اللاتينية والتقدم الذي يحققه اليسار في أوروبا ومع بدايات فرز وحراك أفرزتهما الانتفاضات العربية، كان طبيعياً العودة الى النقاش والبحث.
صحيح ان المشاريع الأبرز هي إما المشروع الأمبريالي والصهيوني، واما المشاريع الإسلامية على اختلاف مواقعها من هذا المشروع، ولكن ما جرى ويجري يفترض وجود الأفق الآخر والحلم الآخر، الذي يفترض أن يحمله اليسار العربي عموماً واللبناني خصوصاً، وهذا ما يفترض الفعل لا الانتظار، المشروع المستقل وليس الإلحاق.
كل يرقص على أنغام «سيريزا» وكأنها تمثله. ببساطة شديدة «سيريزا» هي استمرار وتطوير لنضال اليسار اليوناني بما فيه الشيوعيون اليونانيون، لتضحياتهم في وجه الاستعمار والفاشية.
إن أهم ما يميز مشروع اليسار المتقدم في أوروبا، هو بعده الطبقي والاجتماعي وهذا ما مثل الحركات اليسارية في أميركا اللاتينية. وكجزء من هذا التمثيل الطبقي للفئات الاجتماعية المتضررة من السياسات الاقتصادية التابعة، أخذت هذه الحركات وجهها الوطني أيضاً، فرفض «سيريزا» الإملاءات الأوروبية التي تمس سيادة اليونان، وانتفضت أميركا اللاتينية على سيطرة الولايات المتحدة.
قاعدة انطلاق أولى، هي الطابع الطبقي الاجتماعي، فلا يسار خارج التمثيل السياسي للفئات الاجتماعية الفقيرة والمتضررة من السياسات النيوليبرالية للأنظمة المسيطرة. فاليسار ليس فانتازيا سياسية بل هو مشروع نضالي يعبر عن مصالح الفقراء.
نعم اليسار بحاجة الى تجديد، ولكن التجديد لا يطال الجوهر الذي يعطي اليسار طابعه، عند ذلك يصبح انقلاباً وتشويهاً وليس تجديداً. نعم اصبح ضرورياً توسيع القاعدة الاجتماعية لليسار بما يتجاوز التحديد التقليدي للطبقة العاملة والفلاحين، ويطال كل الفئات الاجتماعية المتضررة من السياسات الرأسمالية، ولكن هذا لا يلغي كونه تمثيلاً سياسياً للفئات الشعبية التي اتسعت نتيجة تمركز الثروة في يد قلة.
وبهذا المعنى لا يمكن ليسار عربي أن يتكوّن خارج اعتبار «فلسطين» المركز القومي لنضاله. فالإمبريالية حامية المشروع الصهيوني. ومن المنطلق الطبقي ـ الاجتماعي، فإن تحرير فلسطين يبقى نقطة ارتكاز أساسية لأي مشروع يدّعي «اليسارية».
وهذا ما ينعكس أيضاً على الموقف من مبدأ المقاومة وضرورتها في لبنان والعالم العربي. فمواجهة الاحتلال هي بالدرجة الأولى قضية اليسار بما يمثله. الى ذلك وكاستنتاج بديهي، لا قيمة ليسار لا يسعى لتغيير النظام الطائفي، فهذا النظام يرتبط بمصالح البرجوازية اللبنانية ويتعدّل بما يتناسب مع هذه المصالح.
إنها أولويات متفاعلة أيها السادة. وليست تراكماً لشعارات منفصلة يتقدم إحداها بمرحلة ما، ولكنها لا تنفصل عن الأولويات الأخرى وإلاّ يفقد المشروع اليساري استقلاليته بما يمثل طبقياً واجتماعياً.