غير مستبعد، لو أنَّ المكلفين تنفيذ التعليمات العليا لم يقعوا في ذلك الخطأ الفادح الذي وقعوا فيه، أنْ يرتكب هذه الجريمة نفسها هؤلاء الذين استغلوا ما حصل مع جمال خاشقجي، وبادروا إلى هذه الحملة التي حولوها إلى حملة دولية مدفوعة الثمن، ضد المملكة العربية السعودية، التي تحلى كبار قادتها بشجاعة منقطعة النظير، وحمَّلوا مسؤولية مقتل هذا الصحافي السعودي عدداً من المسؤولين، وبخاصة من منهم في الأجهزة الأمنية.
عشرات، لا بل ربما مئات الملايين من الدولارات قد أُنفقت، على كثير من الصحف ووسائل الإعلام الغربية، وعلى بعض الأحزاب وأعضاء البرلمانات، في أربع رياح الأرض، وكل هذا في حملة مسعورة كان من المفترض أن يخصص بعضها للذين ارتكبوا جرائم إنسانية في بعض الدول العربية، لم يعرف التاريخ القريب ولا التاريخ البعيد مثلها، والمفترض أنَّ هذه الحقائق لا نقاش فيها لأنها باتت معروفة.
عندما يصل عدد الذين تمت تصفيتهم بطرق بدائية مرعبة في سجن «صيدنايا» السوري إلى أكثر من تسعين ألفاً، فإن المفترض أن يخصص «النائحون» على جمال خاشقجي – رحمه الله – بعضاً من دموعهم وتمزيق جيوبهم، لهؤلاء الذين شاهد العالم صوراً مرعبة لأجسادهم التي تحولت إلى مجرد أكوام من العظام البشرية، التي تقشعر لرؤيتها الأبدان.
كان يجب أن يخصص هؤلاء، الذين بادروا إلى هذه الحرب الإعلامية الظالمة، استهدافاً لدولة لا تجاريها أي دولة عربية أخرى في تبني قضايا العرب كلها، وفي مقدمتها قضية فلسطين، جزءاً من نواحهم ومن حملاتهم الهيستيرية هذه، إلى مئات الألوف من أبناء الشعب السوري، الذين تعاونت على ذبحهم والتبشيع بهم المخابرات السورية مع المخابرات الإيرانية، ومع ميليشيات «حزب الله» اللبناني، وتنظيمات إيران المذهبية ذات اللون الطائفي المعروف.
كان «حزب الله» اللبناني قد ارتكب جريمة اغتيال رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري، ومعه بعض مساعديه ومرافقيه، في ذلك التفجير المرعب في الرابع عشر من فبراير (شباط) عام 2005، الذي لم يعد هناك أدنى شك في أن مخابرات نظام بشار الأسد كان لها الدور الرئيسي فيه؛ لكن ومع ذلك، فإن هؤلاء لم يبادروا إلى كل هذا الاستنفار العالمي، حُباً للصحافي السعودي جمال خاشقجي، ولا حزناً عليه، وإنما كرهاً للمملكة العربية السعودية، التي لولاها ولولا مواقفها القومية الشجاعة لكان هؤلاء المتباكون مجرد خدم تابعين للجنرال الإيراني قاسم سليماني، ولقائد حراس الثورة الإيرانية محمد علي جعفري.
لقد اغتال «حزب الله» اللبناني، إنْ لحساب إيران، وإنْ لحساب نظام بشار الأسد – وهذان يشكلان جبهة واحدة هي المسؤولة عن كل هذا التغلغل الإيراني في المنطقة العربية – رتلاً طويلاً من كبار القادة والمسؤولين اللبنانيين، من بينهم؛ لا بل على رأسهم الرئيس رينيه معوض، والقائد اليساري المعروف جورج حاوي، والصحافي الكبير جبران تويني، والكاتب سمير قصير، وغيرهم من الطوائف اللبنانية كلها، والتوجهات السياسية المتعددة.
لقد كان على هؤلاء، الذين أعلنوا استنفاراً متواصلاً، وأيضاً على مموليهم الذين أنفقوا مئات الملايين من الدولارات، ليس دفاعاً عن جمال خاشقجي ولا حُباً فيه، وإنما لتشويه دولة عربية بقيت تتخذ مساراً عربياً تصاعدياً، أن يتذكروا أن الزعيم اللبناني الكبير كمال جنبلاط، قد قتل غفلة على أيدي الذين يعملون لحسابهم الآن، وأن القائد العروبي الدرزي شبلي العيسمي الذي كان عمره قد تجاوز التسعين عاماً، قد قتل على أيدي هؤلاء أيضاً، وأن مذبحة السويداء وجبل العرب الأخيرة قد ارتكبها الذين ارتكبوا بحق الشعب السوري جرائم كثيرة، وهؤلاء كانوا قد فعلوا ما كانوا فعلوه في مخيم تل الزعتر الفلسطيني، وفي المخيمات الفلسطينية الأخرى في لبنان، وحجتهم لارتكاب هذه الجرائم كلها هي تحرير فلسطين، ومقاومة العدو الصهيوني!
إنه بالإمكان تصديق بعض المدعين في أنهم أصحاب قضية مقدسة هي القضية الفلسطينية، من المنخرطين في هذه الحملة المسعورة حقاً، لو أنهم كانوا ذرفوا ولو دمعة صادقة واحدة على استشهاد الرئيس ياسر عرفات (أبو عمار) وعلى أي من شهداء الثورة الفلسطينية؛ لا بل كانوا من «منافيهم» البعيدة يزايدون على هؤلاء، ويتهمونهم بـ«التفريط» والقبول بما هو أقل من تحرير فلسطين كلها، ومن البحر الأبيض المتوسط غرباً إلى نهر الأردن شرقاً.
حتى عندما اضطرت المقاومة الفلسطينية لمغادرة بيروت بعد صمود قتالي في وجه الإسرائيليين استمر لنحو ثلاثة أشهر، فإن هؤلاء الذين يُسبِّحون بحمد بشار الأسد، ويشيدون ببطولات قاسم سليماني ومحمد علي جعفري، قد وصلت «مزايداتهم» على (أبو عمار) إلى حدِّ اتهامه بالاستسلام للإسرائيليين وللمبعوث الأميركي فيليب حبيب، وبأنه ذاهب إلى «فاس» الثانية، ليقبل بحلٍّ على حساب القضية الفلسطينية والشعب الفلسطيني، وبالطبع فإن إشادتهم بمَن انحاز للنظام السوري مِنْ قيادات حركة «فتح»، مثل نمر صالح (أبو صالح) و(أبو موسى) و(أبو خالد العملة) قد لامست غيوم السماء!
كان هؤلاء في المرحلة «الصدَّامية» نزلاء دائمين في فنادق الدرجة الأولى في العاصمة العراقية بغداد، وكانوا «يزايدون» بانحيازهم القومي العربي، حتى على ميشيل عفلق، وحتى على عبد الخالق السامرائي، وأيضاً على منيف الرزاز، وكانوا يومها يعتبرون الخميني شيطاناً رجيماً وعدواً للعرب والعروبة؛ لكنهم ما إن تم إسقاط نظام صدام حسين بعد جريمة احتلال الكويت التي كانوا قد هتفوا لها إلى أنْ بُحَّت حناجرهم، حتى تخلوا عن كل انحيازاتهم السابقة، إلى حدِّ أنهم باتوا يعتبرون طهران مثابة الثورة العالمية، وأنَّ علي خامنئي هو بطل تحرير فلسطين وموحد الأمة العربية!
لم يكن جمال خاشقجي على علاقة ودية بأي من هؤلاء على الإطلاق، فهم في مرحلة ما قبل تبعيتهم لطهران وقم كانوا «قومجية» من الدرجة الأولى، ولا يقعقع لهم بالشنان، وفوق هذا كانوا ماركسيين – لينينيين، وبعضهم ما كان يخفي إعجابه بـتروتسكي، بينما كان هو – رحمه الله – يحسب على جماعة «الإخوان المسلمين»، وكل هذا وفي حين أنهم كانوا يتغنون باحتلال الجيش الأحمر السوفياتي لأفغانستان، كان هو مقاتلاً شجاعاً في أكثر فصائل الثورة الإيرانية تشدداً وعداءً للروس والشيوعية.
وعليه، فإنَّ «حملهم» لقميص جمال خاشقجي، الذي لم يكن هو يحبهم وما كانوا هم يحبونه، هو من قبيل إيجاد المبرر لكل هذه الحملة الهوجاء على المملكة العربية السعودية، وأيضاً من قبيل إرضاء أولياء نعمتهم، الذين هُمْ بدورهم كانوا قد بادروا للاستبدال بقبلتهم السياسية السابقة قبلة سياسية جديدة، هي طهران التي تحتل جيوشها عملياً ثلاث دول عربية، هي العراق وسوريا ولبنان، وهذا على اعتبار أن «حزب الله» اللبناني فيلق مقاتل في جيش الولي الفقيه، كما قال حسن نصر الله، وكرر هذا القول مرات كثيرة خلال سنوات متلاحقة متعددة.
ثم ومع هؤلاء جميعاً، فإن هناك مجموعات متكسبة تحتل مواقع رسمية في بلدانها، وجدتها فرصة للابتزاز السياسي والمنفعي أيضاً، وهذا لم يقتصر على الولايات المتحدة فقط، وإنما يشمل بعض الدول الأوروبية، وبعض دول أميركا اللاتينية، ويشمل دولاً آسيوية بعض رموزها لهم تسديد حسابات مع المملكة العربية السعودية، وفي مقدمة هذه الدول بالطبع إيران الخامنئية!