Site icon IMLebanon

«تركة داعش» في سوريا: «جهاد» الغد ترعاه أيدٍ أمينة!

 

لا تكاد تخلو وسائل الإعلام الغربية في الشهور الأخيرة من تقرير عن «مقاتلي تنظيم داعش» ومصيرهم الغامض. يأتي ذلك فيما تنهمك أجهزة الاستخبارات الغربيّة في حصاد عدد من أخطر المطلوبين الذين لم يُقتلوا في الحرب السورية، وبموجب عملٍ مُنظّم انطلق قبل عامين، وأخذ على عاتقه اصطياد «الجهاديين» الأجانب، وإعادة تدوير الجهاديين المحليين لخدمة مرحلة ما بعد «داعش»

قبل يومين احتفت وسائل الإعلام الفرنسيّة بالقبض على «الجهاديّة» الفرنسيّة إيميلي كونينغ في سوريا على يد «قوات سوريا الديمقراطيّة». كونينغ، التي وصفتها صحيفة «لو فيغارو» بـ«الجهادية المطلوبة رقم 1» لم تكن باكورة الجهاديين الفرنسيين المقبوض عليهم عقب انهيار تنظيم «داعش». كانت «قسد» نفسها قد أعلنت في الأسبوع الأخير من العام الماضي القبض على عدد من الفرنسيين: رومين غارنييه، توماس كولانج، وتوماس بارنوين.

 

ووصف الأخير بدوره بـ«الجهادي المطلوب رقم 1» على خلفيّة علاقته بالجهادي الفرنسي الشهير محمد مراح (منفذ اعتداء تولوز 2012). قبلها بثلاثة أشهر تسلّمت فرنسا أيضاً واحداً من «مجاهديها» في سوريا، وهو جوناثان جيفروي (أبو إبراهيم الفرنسي)، لكنّ «قسد» لم تكن طرفاً في عملية التسليم تلك، بل عدوّتها اللّدود أنقرة. ولا تمثل عمليات التسليم المذكورة سوى نقطة صغيرة في بحر عمليات كثيرة مماثلة نُفِّذَت بعيداً عن الأضواء منذ عام 2016، وزادت وتيرتُها كثيراً في أعقاب الغزو التركي للشمال السوري تحت مسمى «درع الفرات». ورغم أن ماكينة الإعلام الغربيّة قد التفتت أخيراً إلى ضخ تقارير متتالية عن «مستقبل داعش» وعن مصير مقاتليه الذين «اختفوا»، غير أن الاهتمام الاستخباري بهذا الملف كان على رأس أولويّات الولايات المتحدة، وشركائها في «التحالف الدولي» منذ سنتين.

وأنشأت واشنطن برنامجاً سريّاً خاصّاً متفرّعاً عن برامج «دعم المعارضة المعتدلة» مهمّته الأساسيّة العمل على تشجيع «الجهاديين» الأجانب المنضوين في صفوف «داعش» على الانشقاق عن التنظيم بصورة منظّمة تضمن استقطاب المنشقّين، لا عشوائيّة تؤدّي إلى تسربهم في اتجاهات شتّى. وكانت «الأخبار» قد نشرت قبل عام كامل تحقيقاً عن «مراكز الاستقطاب» العاملة في كنف هذا البرنامج («الأخبار»، العدد 3075). وبقي عمل المراكز المذكورة بعيداً عن التداول الإعلامي، باستثناء إشارات عابرة في سياق تقارير مختصرة، قبل أن تنشر وكالة الصحافة الفرنسية منتصف الشهر الماضي تقريراً مفصّلاً باللغة الفرنسيّة عن أحد تلك المراكز. ولا يُمثّل القبض على «الجهاديين» الأجانب سوى جانب من عمل «مراكز الاستقطاب»، أما الجانب الأخطر فهو السعي إلى إعادة تدوير «الجهاديين» المحليين (في سوريا على وجه الخصوص) وتجنيدهم تحت رايات أخرى غير راية «داعش». وأتاحت المعارك الكبرى التي فُتحت ضدّ «داعش» على غير جبهة المجال أمام تحوّل حصاد عمليات الاستقطاب من العشرات أوّل الأمر، إلى المئات في وقت لاحق. وفتحت «درع الفرات» التركيّة الباب أمام اتفاقات سريّة مع قيادات التنظيم المتطرف لتسليم مدن ومناطق في مقابل ضمان «عبور آمن» للراغبين من التنظيم بمواصلة القتال على جبهات أخرى، و«ملاذ آمن» للراغبين في نقل البندقية إلى كتف أخرى («الأخبار»، العدد 3112). ولاحقاً حذت «قوات سوريا الديمقراطيّة» حذو أنقرة وتحت إشراف الولايات المتحدة إبّان معركة مدينة الرقة. فيما كانت دمشق قد سهّلت بدورها اتفاقاً قضى بانسحاب مقاتلي «داعش» من معركة «فجر الجرود» إلى البوكمال في ريف دير الزور الجنوبي الغربي. ومن المرجّح أن اتفاقات أخرى قد عُقدت بعيداً عن الضوء بين التنظيم ومختلف الجهات التي حاربته في خلال العام الأخير على وجه الخصوص. ويبدو بديهيّاً أن تلك الاتفاقات قد أتاحت الفرصة أمام تسرّب جزء من مقاتلي «داعش» بشكل منظّم. فيما أتاحت المعارك التي طال أمُدها في بعض المدن والبلدات الفرصة أمام المئات من منتسبي التنظيم لعقد اتفاقات مع مُحاصريه لتهريبهم خارج نطاقات الحصارات المضروبة. كذلك أفلح المئات من المقاتلين المحليين في الهروب بفضل تكتيك «الذوبان» الذي سبق لـ«جهاديي القاعدة» أن انتهجوه عقب اعتداءات 11 أيلول، وفرّوا بفضله من فصول «الحرب على الإرهاب» التي اشتدّت حينها. ويقوم التكتيك المذكور على قاعدة بسيطة مفادُها الانخراط في صفوف المدنيين الهاربين من المعارك، والتخفّي لسنوات في انتظار الفرصة المناسبة التي تتيح لمن يرغب العودة لتلبية نداء «الجهاد». وبات معروفاً أن تنظيم «الدولة الإسلاميّة» لم يولد بفضل الحرب السوريّة، ولا يبدو أنّه سيموتُ في خضمّها.

رحلة «الصعود» و«الهبوط»

 

على الرّغم من أنّ الفوضى التي تصاعدت في سوريا بشكل تسارعَ كثيراً منذ أواخر عام 2012 كانت تُربةً خصبةً استثمر فيها التنظيم المتطرّف، غيرَ أنّه يدين بنشأته لفوضى سابقة عاشها العراق بفضل الغزو الأميركي («الأخبار»، العدد 2315). في نيسان 2013 انفجر الخلاف الشهير بين «داعش» وربيبته في سوريا «جبهة النصرة» لأسباب تتعلّق في الدرجة الأولى بالسباق على السلطة والمكاسب، ليتحوّل التنظيم سريعاً إلى رقم صعب في «المعادلة الجهاديّة» في وجه «القاعدة» الذي أعلن «رسميّاً» أنّ «النصرة» هي فرعه السوري. دخل «داعش» في سباق مع الزّمن، خرج منه منتصراً أوّل الأمر، وتمكن بفضل «العمق العراقي» من بسط نفوذه تدريجاً في الشرق السوري حيث النفط بمثابة «جائزة كبرى». ثمّة حقيقة يحاول كثير من المنغمسين في الشأن السوري القفز فوقها، وتتعلّق بتسليم «الفصائل المعارضة» وعلى رأسها «حركة أحرار الشام الإسلاميّة» مدينة الرقّة للتنظيم المتطرّف (كانون الثاني 2014). أجاد «داعش» استثمار التناقضات المحليّة والإقليميّة وتقدّم سريعاً ليملأ الفراغ في كل من العراق وسوريا. المفارقة أنّ كل اللاعبين المؤثرين في الصراع لم يجدوا وقتها غضاضةً في «تمدّد» التنظيم لأسباب متباينة، ما منح «الوحش» الفرصة المُثلى للنمو تحت سمع العالم وبصره. رحلة انحدار التنظيم لم تبدأ بشكل فعلي إلا مع توافق جميع اللاعبين مجدّداً على أنّ «الساعة دقّت». بين الصعود والانحدار تبدّلت معطيات كثيرة في المشهد، دخل «التحالف الدولي» الأجواء السوريّة من بوابة «محاربة الإرهاب» في أيلول 2014. زادت طهران من عديد «المتطوّعين» على الأرض بتنسيق مع دمشق، وبتنسيق مماثل دخلت موسكو الحرب «رسميّاً» في أيلول 2015 (بعد عام كامل من دخول «التحالف»). بعد الدخول الروسي بشهر واحد، خطا «التحالف» خطوة إلى الأمام مع تشكيل «قوات سوريا الديمقراطيّة» التي باتت بمثابة ذراع برية له تسيطر على نحو 15000 كيلومتر مربع من الأراضي السورية (لم تكن مساحة سيطرة «وحدات حماية الشعب» الكرديّة بعد دحرها «داعش» في معركة عين العرب (كانون الثاني 2015) تتجاوز 12000 كيلومتر مربع). تدريجاً تنامى حجم «التعاون» بين «قسد» و«التحالف» واستقبلت الأراضي التي تسيطر عليها الأولى قواعد عسكريّة وقوّات خاصة و«متطوّعين»، وتمدّدت مساحتها لاحقاً لتبلغ 38500 كيلومتر مربع في مطلع آذار 2017، بينما قاربت أخيراً 60000 كيلومتر مربع.

 

«متاهة» الأرقام

 

كانت متاهة الأرقام واحدة من أخطر «الألعاب» التي مورست على امتداد الحرب السورية، ولا سيّما في ما يخصّ أعداد «الجهاديين». وحفلت الأرقام التي جرى تداولها بمبالغات هائلة، سواء على ألسن بعض المسؤولين، أو في سياق تقارير إعلاميّة شتّى. ولعبت تلك المبالغات دوراً في تضخيم قدرات «داعش» إلى حدٍّ منحَه صورة «التنظيم الذي لا يُقهر». ومن بين أكثر المبالغات إثارة للدهشة تبرز مزاعم الولايات المتحدة أنها قتلت بحلول تموز 2016 ما يقارب 45000 مقاتل من «داعش»، ويبدو هذا الرقم كاريكاتوريّاً إذا ما قورن بتقديرات الاستخبارات الأميركيّة في تموز 2015 لعديد مقاتلي التنظيم بـ31500 مقاتل فقط.

 

فرنسا «تسنّ أسنانها»

 

لا يبدو أنّ للمصادفات دوراً في تزامن إعلان القبض على الجهادية الفرنسيّة كونينغ، وتأكيد رئيس أركان الجيش فرانسوا ليكوانتر أنّ «فرنسا تستعدّ لمرحلة ما بعد داعش في بلاد الشام». الجنرال الفرنسي كان قد أوضح للعسكريين الفرنسيين في قاعدة H5 الفرنسيّة في الأردن أنّه بصدد «وضع مقترحات على طاولة الرئيس» في هذا الشأن. ويكتسب إطلاق هذه التصريحات من تلك القاعدة بالذات خصوصية لافتة، نظراً لكونها منطلقاً لقرابة 4500 طلعة جوية فرنسيّة نُفِّذَت فوق كلّ من سوريا والعراق.