مستندات ضائعة وملكيات ملتبسة وتلاعب
كثيرة جداً هي الإشكالات القانونيّة التي سيواجهها النازحون اليوم وقد وضعت الحرب أوزارها. أوراق ثبوتية مفقودة، مستندات رسمية ضائعة تحت ركام البيوت المهدمة، مبانٍ سقطت، شقق تبخرّت وسندات ملكية اختفت. بلديات هدمت ودوائر رسمية ضاعت مستنداتها. الأصعب من كل ذلك شهداء سقطوا أو تناثروا أشلاء ولم يشطبوا من سجلات النفوس ومفقودون لم تعرف مصائرهم بعد…لبنان يغرق تحت معضلات قانونية تشكل تهديداً جديداً لبنيته الحقوقية.
أطفال ولدوا في مراكز الإيواء أو بعيداً عن قراهم، زيجات عقدت في الحرب، ضحايا سقطوا وجثث لم يتم التعرف إلى هويات أصحابها حتى اليوم، ومفقودون لا يمكن الجزم بمصيرهم. مسائل شائكة مرتبطة بالأحوال الشخصية وضعت الحكومة بعض الحلول الآنية لها لكنها أغفلت الكثير من تشعباتها وتحدياتها.
من يحفظ النفوس وسجلاتها؟
جمعية رواد الحقوق اللبنانية العلمانية، التي تعنى بالدفاع عن حقوق الإنسان لا سيما الفئات الأكثر تهميشاً، وتقدم الاستشارات القانونية، إنكبّت على هذه المواضيع لتطرح ما تثيره من إشكاليات وتضع تصوراً للإجراءات التي ينبغي اتخاذها ليحافظ كل من تعرض لتبعات الحرب، على مدى 64 يوماً، على حقوقه.
بداية، على صعيد الأحوال الشخصية أصدرت المديرة العامة للأحوال الشخصية بالتكليف رودينا مرعب تعميماً يمكن بموجبه للمواطنين النازحين من محافظات لبنان الجنوبي، النبطية، البقاع، الهرمل وبعلبك مراجعة أقرب قلم نفوس تابع لمكان تواجدهم وسكنهم من أجل الاستحصال على بيان قيد جديد بناءً لطلبٍ منظم لدى مختار المحلة أو السكن وفقاً للأصول على أن يكون صاحب الشأن قد استحصل سابقاً على بيان قيد إفرادي حتى لو لم يكن لديه نسخة منه. بإمكانه أيضاً تجديد بيان قيد قديم صادر منذ العام 2017. وجاء هذا التعميم للتخفيف من الضغوطات على الإدارة المركزية في المديرية العامة للأحوال الشخصية وتسهيل شؤون النازحين الذين لم يعودوا إلى مناطقهم بعد. لكن التعميم لم يأتِ على ذكر محافظة جبل لبنان. صحيح أن أقلام النفوس فيها متواجدة في بلدات قريبة مثل بعبدا والجديدة وغيرهما لكن ماذا يفعل النازح من الضاحية الذي انتقل إلى طرابلس أو عكار مثلاً وكيف يتكبد عناء الوصول إليها؟
كانت أقلام النفوس في مرجعيون، ميس الجبل، بنت جبيل، جباع وصور قد نقلت سجلاتها إلى النبطية إلى مكان كان يُظن أنه آمن فيما لم يذكر أي شيء عن أقلام نفوس البقاع والبقاع الغربي وإذا كان قد تم نقل دفاترها إلى أمكنة آمنة. ومن الجدير ذكره أنه تمّ نقل السجلات أو ما يعرف بالدفتر الكبير، لا المستندات والوثائق التي يصعب تحميلها ونقلها، والمؤسف ان هذه الوثائق مثل شهادات الولادة وعقود الزواج والطلاق وغيرها إذا ضاعت أو تلفت لا يمكن استرجاعها. وقد كانت هناك محاولات سابقة لمكننة أغلبية سجلات النفوس ونقل الوثائق إلى ميكرو فيلم من قبل شركة أجنبية لكنها توقفت منذ العام 2005 في معظم دوائر النفوس.
ولادات الحرب
في تقرير لمكتب مفوضية الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان، أفيد عن وجود نحو 14,000 امرأة حامل خلال الحرب، وضع عدد كبير منهن مواليدهن بعيداً عن مناطقهن ويتوقع أن تشهد الأسابيع المقبلة حوالى 1500 حالة ولادة. فهل تمّ تسجيل هذه الولادات في خضم الحرب؟ القانون اللبناني يقضي بتسجيل المواليد خلال مهلة لا تتعدّى السنة من تاريخ الولادة، أما بعد هذه المهلة فيحتاج تسجيلهم إلى دعوى قضائية تقتضي دعوى شرعية لإثبات النسب وقبلها إثبات الزواج وبعدها دعوى مدنية لتسجيل الطفل. لكن ماذا عن الأطفال الذين ولدوا في مستشفيات باتت مدمرة وفقدت كل سجلاتها؟ وهل حافظت المستشفيات التي تعرضت للقصف على سجلاتها من وثائق ولادة وشهادات وفاة في مكان آمن؟ ماذا عن الأهل الذين لم يستطيعوا الاستحصال على وثيقة ولادة بسبب غياب المختار مثلاً أو اضطرارهم للنزوح قبل الحصول عليها؟ هل يمكن لمختار السكن إصدار وثيقة ولادة؟
السؤال نفسه يطرح بالنسبة للمحاكم الشرعية: أين سجلاتها وهي المختصة بالأحوال الشخصية من إثبات زواج وإثبات نسب ووفاة وفقدان وحصر إرث وسواها؟ هل تم نقلها الى أماكن آمنة؟ وفي حال فقدان كل هذه المستندات كيف سيعالج مجلس الوزراء الذي تتبع له هذه المحاكم هذه المشاكل القانونية التنظيمية المتعلقة بقيود الأفراد ووقوعات أحوالهم الشخصية؟ و كيف ستعالج وزارة الداخلية ومديرية الأحوال الشخصية مشاكل مضمون السجلات؟
رحلوا وما زالوا على الورق
عدد الضحايا المعلن، يزيد عن 3823 شخصاً حتى وقف إطلاق النار. لكن الرقم على هوله لا يذكر أعداد المفقودين الذين لم يعثر على جثامينهم. فهل تملك وزارة الصحة أسماء لكل الضحايا أم أعدادهم فقط؟ وماذا عن الأشلاء التي وجدت في أماكن القصف هل تقوم وزارة الصحة أو أي مرجع مختص بإجراء فحوصات الـ DNA لها ليتم تحديد هويتها وأين تحفظ هذه الأشلاء؟ وفي حال المفقودين الذين لم يعثر على جثثهم أو أشلائهم هل تم إجراء فحوص الـ DNA للأهل؟ وفي حال عدم تحديد هوية الضحية أين يتم إيداعها أو دفنها؟ هل قامت وزارة الصحة بإعلام دوائر النفوس باسماء الضحايا ليصار إلى شطبها أم أن هذا يعود إلى الأهل؟ وماذا عن عائلات بأكملها زالت من الوجود، من يقوم بتسجيل الوفاة وشطبها عن سجلات النفوس؟ الأقارب، المخاتير، الدولة التي تصبح ولية على المواطن أم النيابة العامة والأحوال الشخصية؟ وكيف يمكن للمراجع المختصة إحصاء عدد القتلى مع وجود مفقودين لا يزال مصيرهم مجهولاً؟ أسئلة أسئلة تحتاج إلى أجوبة سريعة من دولة يفترض أن تستعيد سيادتها.
القانون اللبناني يعطي مهلة 45 يوماً لتنفيذ الوفاة في دوائر النفوس وتقتصر المهلة على 15 يوماً للمالية وحصر الإرث. لكن الغرامة التي تدفع عن التأخير ليست غرامة عالية في المبدأ. وقد أقرّ مجلس النواب قانون تعليق المهل القانونية والقضائية والعقدية حتى 31 آذار 2025 لكن الدولة مطالبة بتوضيح ما إذا كان هذ القانون سيشمل المهل المتعلقة بالأحوال الشخصية.
مديرية الأحوال الشخصية كانت قد سهلت بالممارسة تسجيل شهادات الوفاة عند مختار المحلة وأماكن النزوح دون أن يكون قد صدر بذلك تعميم واضح. لكن في هذه الحال من يضبط عمليات التزوير والتلاعب كأن يتمّ مثلاً توفية أشخاص غير متوفين من أجل الميراث؟ أو على العكس، أن لا يشطب شخص متوفى لأسباب مختلفة؟
أسئلة مؤلمة حارقة كان يجب التنبّه لها حين وضعت خطة الطوارئ. هي أسئلة ستحتاج إلى إجابات حاسمة من الحكومة ومن الوزارات والمديريات المختصة وكلها مراجع سيكون عليها التعامل مع حالات قانونية صعبة ومعقدة. لكن، حتى الآن يبدو أن كل مديرية تبادر من جانبها، في غياب خطة متكاملة لحل هذه الإشكالات.
فوضى عقارية وحقوق ضائعة
هذا بالنسبة للبشر، لكن ماذا عن الحجر وعن كل الإشكالات التي سيطرحها الترميم وإعادة البناء ودفع التعويضات؟ مئات المباني هدمت وتحولت شققها ركاماً ومئات البيوت نسفت ودمرت ولم يبق منها أثر، أصحابها ربما لم يحملوا معهم حين غادروها سندات الملكية. فكيف يمكن لأصحاب الحقوق إثبات ملكيتهم عند بدء دفع التعويضات وتجنّب عمليات التزوير ووضع اليد؟ ومن يحدد حقّ مالكي الشقق والمستأجرين والأقسام المشتركة ورؤوس الجذور؟ وبعد، من أين سيتم الاستحصال على سند ملكية في حال ضياعه؟ وماذا عن المباني غير المفرزة أو المخالفة والشقق التي لم يتمّ تسجيلها بعد؟
الكشف عن الأضرار ومسح المباني المتضررة قد بدأ من قبل “حزب الله”، كذلك الكلام عن تعويضات ستدفع قريباً للمتضررين، وثمة فرق هندسية من جهاد البناء قد باشرت بالكشف عن المباني المتضررة في الضاحية حسبما علمنا من الرسائل التي وصلت عبر الواتساب إلى السكان كما بدأت مجموعات الواتساب نشر أخبار عن بدء دولة قطر بالتحضيرات لعملية إعادة الإعمار. كل ذلك والحكومة اللبنانية لم تضع بعد الآليات لتوثيق الأضرار أولاً وتنسيق إمكانيات إعادة الإعمار في ما بعد، بانتظار الحصول على الدعم الدولي لذلك.
إعادة الإعمار تطرح أسئلة صعبة تفترض وجود خطة حكومية طارئة وشاملة ودراسات قانونية حول الملكيات وأصحاب الحقوق. في هذا الإطار، يؤكد الحقوقيون المختصون في جمعية رواد الحقوق أن ذلك قد يترافق مع تعقيدات محتملة ونزاعات تعود إلى وضع المباني والشقق ووضع الأرض وشرعيتها.
إذا كانت الأرض ممسوحة والبناء قانوني بموجب رخصة ومبلّغ عنه إلى التنظيم المدني يمكن لأصحاب الحقوق الذين فقدوا سند الملكية الاستحصال على نسخ منه من الدوائر العقارية أو دوائر المساحة أو من وزارة المالية قسم الضرائب على الأملاك المبنية. وفي حال كان البناء شرعياً لكنه غير مفرز فقد يساعد وجود عقد بيع حتى ولو لم يكن مسجلاً في الدوائر العقارية.
أما بالنسبة للعقارات غير الممسوحة أو المباني غير المفرزة والشقق غير المسجلة فوضعها القانوني صعب والفوضى سيدة الموقف. فإذا كانت الأرض التي تمّ البناء عليها غير شرعية، وكثير من المناطق تشهد تعدياً على مشاعات الدولة كما في منطقة الجناح مثلاً، حينها لا يمكن لأصحاب الحقوق المطالبة بحقوقهم وثمة علامة استفهام كبرى بالنسبة للملكية والتعويض لاحقاً، وفي حال وجود عقارات غير ممسوحة هناك حاجة إلى علم وخبر من المختار لتأكيد الملكية وهذا يطرح إشكالية المصداقية والدقة. كذلك هناك مشكلة بعض الأملاك التي تم استحواذها ووضع اليد عليها منذ أكثر من عشرة أعوام في ما يعرف بمبدأ الحيازة فهل يتم التعويض على هؤلاء وكأنهم أصحاب حقوق شرعية؟
ثمة ملكيات تهدمت وكانت خاضعة في الأصل لنزاعات قانونية كحال الملكية المنتقلة من الأجداد إلى الورثة لا سيما في الضيع دون وجود نقل ملكية رسمي. في هذه الحال ثمة حلان يمكن أن يطرحا وفق الحقوقيين: الأول وهو الاستحصال على حكم إرث تبرز فيه إفادة عقارية وإيصال من المالية يتم على أساسه نقل الملكية ودفع رسوم الانتقال، أما الحلّ الثاني فيقوم على حق كل شخص يدّعي صفة إرثية بالحفاظ على الملك شرط إبراز بعض المستندات مثل إفادة عقارية وحكم إرث.
لا شك أن الأمور العقارية كثيرة التعقيدات لكن لبنان الذي شهد حروباً متكررة بات يجيد التعامل ولو بشكل غير قانوني مع مختلف المسائل القانونية سواء الشخصية أو العقارية. فلنراقب.