ما ان أعلن عن رفع اجتماع هيئة مكتب المجلس النيابي امس الذي كان مخصّصاً للبحث في جدول أعمال ثاني جلسات مجلس النواب التشريعية منذ خلو سدة الرئاسة لاستكمالها الاثنين المقبل، حتى استذكر البعض ما رافق سقوط الدعوة الى الجلسة الاولى التي كانت مخصصة للبحث في الادعاء على مجموعة من وزراء الاتصالات قبل ان يتبيّن انّ هناك فوارق عدة بين الجلستين من دون إغفال ما يتصل باستمرار المناكفات والكيديات السياسية التي أفضَت الى أكثريات نيابية مختلفة. وعليه، ما الذي يقود الى هذه القراءة المعقدة؟
أحيت التحضيرات، التي أطلقها رئيس مجلس النواب نبيه بري لعقد الجلسة التشريعية للبَت بمجموعة من اقتراحات ومشاريع القوانين المطروحة على الهيئة العامة للمجلس بالعشرات، مظاهر النزاع مجدداً بين دعاة «تشريع الضرورة» من جهة وأولئك الذين يرفضون أي دور تشريعي للمجلس النيابي طالما انه لم ينجز المهمة الاولى المطلوبة منه لانتخاب رئيس جديد للجمهورية بعدما خلت سدة الرئاسة منذ الاول من تشرين الثاني الماضي بمعزل عن اهمية البنود المطروحة على الجلسة وما هو مطلوب لضمان استمرار العمل في بعض المرافق العامة في الداخل، وما هو مطلوب من الخارج في إطار المفاوضات القائمة بين الحكومة وصندوق النقد الدولي عندما يتصل الأمر ببعض القوانين التي أدرجت على لائحة الخطوات الاصلاحية المطلوبة من المجتمع الدولي.
وبعيداً مما يقول به الدستور وما انتهت إليه قراءات فريقي النزاع المتناقضة لمضمون بعض المواد الدستورية، ولا سيما منها المادة 75 التي قالت ما حرفيته «إنّ المجلس الملتئم لانتخاب رئيس الجمهورية يعتبر هيئة انتخابية لا هيئة اشتراعية ويترتّب عليه الشروع حالاً في انتخاب رئيس الدولة من دون مناقشة أيّ عمل آخر»، فإنّ هناك من يقول ان ما نصّت عليه هذه المادة ينطبق على الجلسة الواحدة التي يوجّه الدعوة إليها رئيس مجلس النواب بالاستناد الى مضمونها. فإن قالت الدعوة انها من اجل انتخاب الرئيس يطبّق مضمون هذه المادة وهو امر يبرر الدعوات الاخرى الى جلسات تشريعية بمعزل عن وجود رئيس الجمهورية في موقعه من عدمه، وهو أمر يرد عليه أصحاب الرأي المناقض بالقول ان «الاولوية الدستورية التي تُوجب انتخاب رئيس للجمهورية غير قابلة للتلاعب أو التمييع، تماشياً مع قاعدة «الرئاسة أولاً» في عمل المجلس النيابي خلال فترة الشغور.
وعليه، وطالما انّ الجدل الدستوري حول مضمون هذه المادة، وكذلك القائم حول مضمون المادة 49 من الدستور ما زال قائماً، فإنّ المسرح النيابي ما زال مفتوحا على مزيد من الآراء المتناقضة التي اتخذت مختلف أشكال التسويات والتفاهمات التي يمكن ان تحسم لمصلحة اصحاب أيّ من النظريتين. وهو أمر أدرج على لائحة الأعراف والسوابق بعدما اختبرت نماذج منها على مستوى السلطة التنفيذية حيث رجّحت المساومات والتفاهمات انعقاد ثلاث جلسات حكومية حتى الأمس القريب بعد ضمان النصاب القانوني لها على رغم من مجموعة الترددات السلبية التي تركتها على العلاقات بين المكونات السياسية والحزبية بعد الحكومية من بين الحلفاء من أهل البيت وحلفاء الحلفاء والخصوم على حد سواء.
وعليه، توقفت مراجع سياسية ونيابية أمام التجربة الجديدة الهادفة الى عقد جلسة نيابية تشريعية لتُجري فرزاً بين التجارب السابقة وتلك المطروحة اليوم. ولما أحيت الذاكرة التجربة الفاشلة التي أدت الى تطيير الجلسة التشريعية الاولى التي دعا إليها بري في السابع من كانون الأول الماضي، والتي كانت مخصصة للبحث في «العريضة الاتهامية» في حق ثلاثة من وزراء الاتصالات السابقين: نقولا صحناوي، بطرس حرب وجمال الجرّاح، وما يمكن ان تبتّ به الهيئة العامة للمجلس في حقهم. إذا أظهرت المقاطعة المسيحية لها على خلفية رفضها لمبدأ التشريع الى تطييرها بمعزل عن مضمون الادعاء القضائي وللاسباب عينها التي تواجه الدعوة الى الجلسة الحالية للمجلس.
إلا ان المراجع عينها التي عاينت مصير الجلسة السابقة ترى ان هناك فوارق كبيرة تدفع بعض الكتل النيابية الى عدم إجراء اي مقارنة نهائية ما بين الجلستين، فالبَت بمصير الوزراء الثلاثة الذي كان رهناً بعقد الجلسة السابقة لا ينطبق على ما هو مطروح اليوم. فعلى جدول الأعمال المحتمل هذه المرة قضايا مختلفة في شكلها ومضمونها عن تلك المتصلة بالسابقة، وأن على المجلس النيابي البت بقضايا دقيقة وحساسة تتصل بملفات مطلوبة بإلحاح على مستوى الداخل وخصوصاً لجهة ضمان استمرارية العمل في بعض المرافق العامة ومنها مؤسسات عسكرية وامنية وقضايا اخرى مختلفة، ولا تقف الامور عند ملاحقة ثلاثة وزراء سابقين من بينهم نائب حالي وقد التقت المصالح على تطييرها بمعزل عن مصير الاتهامات الموجهة إليهم والحاجة لملاحقتهم من عدمها.
وعند النظر الى ما هو مطروح من زوايا اخرى، فإنّ الاشارة واجبة الى التمعن في الهدف من الجلسة المقبلة وهي تتصل بقضايا مطلوبة من الخارج، وخصوصا عند النظر في مصير مشروع قانون الكابيتال كونترول وبنود اصلاحية مالية ونقدية اخرى يحجب البَت بها التزاماً من الجانب اللبناني بما تعهّد به في الاتفاقات المعقودة بالأحرف الأولى وعلى مستوى الموظفين الكبار بين الحكومة اللبنانية وصندوق النقد الدولي لضمان استمرار المفاوضات معه مخافة أن تلقى مصير تلك التي كانت جارية مع البنك الدولي، الذي جمّد البحث في القرض المطلوب بـ 300 مليون دولار لاستجرار الغاز المصري والكهرباء الاردنية بعدما تخلّف لبنان عن تنفيذ الخطوات المطلوبة منه ولا سيما منها تلك المتصلة بإنشاء الهيئة الناظمة لقطاع الطاقة واجراءات اخرى لم تلغِها التعديلات التي أقرّت حول كلفة الطاقة الكهربائية.
ولذلك، فقد رأت هذه المصادر، في رفع اجتماع هيئة مكتب المجلس امس من دون البت بالموعد المحدد للجلسة من اولى المؤشرات أنّ المواجهة ما زالت مستمرة بين أصحاب نظريتي الحق في التشريع من عدمه، وأن الطرفين جَنّدا مختلف ما يمتلكانه من قدرات على هذا المستوى. وما يوحي بحماوتها المنتظرة يبنى على المضي بالمناكفات المستمرة على خلفية المفاوضات الجارية تحت شعار تعديل جدول اعمال الجلسة بما يضمن التوازن في التعاطي مع التمديد لقادة الاجهزة الامنية من دون ان تنسحب عملية التمديد على بقية موظفي الفئة الأولى الذين انتهت مهماتهم او أولئك الذين يمكن ان تنتهي مهماتهم في وقت قريب.
وفي الختام، لا بد من الاشارة الى انّ تأجيل اجتماع هيئة مكتب المجلس الى الاثنين المقبل يعني ان هناك مهلة لا بد من احترامها للبَت بمصير الجلسة التشريعية التي يمكن ان تعقد قبل نهاية الشهر الجاري للتمديد لقادة الأجهزة الامنية، بعد ضمان «الاكثرية» المطلوبة وتجميد النكد والمناكفات السياسية لفترة محدودة محصورة بالهدف من الجلسة وتقليص المخاوف من «الميثاقية الفضفاضة» وتوفيرها بالحد الادنى المطلوب. وكل ذلك يجري من دون ان يكون هناك ضمان لتوسيع العملية لتشمل حاكم مصرف لبنان. والى تلك اللحظة يخلق الله ما لا تعلمون