عند كلّ موعدٍ لعقد جلسة تشريعية لمجلس النواب، تستنفر تكتلات نيابية، من ضمنها «نواب التغيير»، مُطلِقةً العنان لبياناتِ شجب «خرق الدستور»، من مُنطلَق ربط التشريع بإنجاز الاستحقاق الرئاسي. لكنّها، وهي تظنّ أنّها تواجه «الشغور» تثبّت ما يُمكن تسميته بـ«حكم الفراغ».
في الجلسة السابقة (11 شباط) وجلسة يوم أمس، مُهر بيانا النوّاب المُعترضين على انعقاد جلسات التشريع بتواقيع غالبية «نواب التغيير». مع كثير من حسن الظنّ، بعدما انكشف تقاطع أجندات بعضهم مع أحد طرفي الصراع، ينطلق «التغييريون» في رفضهم جلسات التشريع من المادتين الدستوريتين 74 و75 اللتين تنصان على أنّ المجلس راهناً هو هيئة ناخبة فقط، وأن الحل يبدأ بانتخاب رئيس للجمهورية. ياسين ياسين، مثلاً، يرى أن رئيس المجلس نبيه بري والكتل النيابية المنخرطة في العمل التشريعي «يريدون التطبيع مع الفراغ الرئاسي». ويشدّد زميله النائب ميشال الدويهي على «تطبيق الدستور، وانتخاب رئيس للجمهورية يشكّل حكومةً جديدة تسير في الإصلاحات مع صندوق النقد بدلاً من ترقيع زيادات الرواتب». ومثله تشدّد النائبة بولا يعقوبيان على «عدم السماح بممارسة الحكم، وسط مخالفة دستورية، وكأنّ شيئاً لم يكن. ولا مانع من التقاطُع مع النواب أصحاب الرأي نفسه من أي فريقٍ كانوا». فيما يركّز النائب الياس جرادة على أن «تحلّل مؤسسات الدولة يفترض حماية الدستور وتطبيقه بانتخاب رئيسٍ للبلاد، وإعادة الانتظام».
لكنّ هؤلاء، من حيث يدري معظمهم، يتقاطعون مع الكتل النيابية الرافضة كحزبي الكتائب والقوات اللبنانية اللذين تظهر بصماتهما واضحة على البيانات، فكرةً وتحضيراً وصياغةً، واللذين لا يعنيهما، ومعهما البطريرك بشارة الراعي، من الفراغ بعده الدستوري، ولا يرون فيه إلا «ضرباً للمركز المسيحي الأول»، فيما يلعب التيار الوطني الحر على حبلين: يقاطعُ تارةً حرصاً على المركز المسيحي الأول، ويؤمّن النصاب تارةً أخرى تجنباً لإثارة نقمة شعبية إذا ما تخاذل عن البحث في رواتب القطاع العام.
في النتيجة، تتلاقى ممارسات «التغييريين» مع رواد المنظومة التي جاؤوا لتغييرها في تعطيل مجلس النواب. وفي ذلك تأسيس لسحب الفراغ الذي يحكم السلطة التنفيذية على مجلس النواب الذي يبقى، رغم فشله في انتخاب رئيس للجمهورية، «السلطة» الوحيدة المكتملة الشرعية، ويُكرّس ضربها الفراغ على رأس كل المؤسسات الدستورية. أضف إلى ذلك أنّ رفض التشريع في ظل الفراغ الرئاسي يعني أنّ هؤلاء يعتبرون أن إعادة تكوين السلطة تبدأ من الانتخابات الرئاسية، وليس الانتخابات النيابية التي أتت بهم إلى البرلمان. بهذا المعنى، يتخلى النواب عن مسؤولياتهم التشريعية والسياسية بصفتهم وكلاء عن اللبنانيين، ويرفضون البحث في ملفات أساسية تهمّ هؤلاء، وهذا ما بدأت «قاعدتهم الشعبية» تتململ منه، في ظروف استثنائية لا يعني الناس فيها إلا ما يمسّ جيوبهم وحقوقهم وأوضاعهم المعيشية.
ويزيد من بؤس هؤلاء عدم وجود خطة «ب» لديهم. فهم يرفضون تسيير العمل التشريعي طالما أن الشغور الرئاسي قائم، ومهما طال، علماً أنّ الدستور لا يسمح بالرجوع إلى الإرادة الشعبية في حالات كهذه. وفي هذا كثير من العبثية، فلا هم متفقون في ما بينهم على مرشح لرئاسة الجمهورية، ولا على أسباب رفض اقتراحات القوانين المطروحة على الهيئة العامة للمجلس. واعتراضهم لا يمكن إلا أن يُقرأ كدعوة من قبل جناحٍ في السلطة ضد الجناح الآخر… وفي هذا يخيب رهان أكثر من 300 ألف لبناني صوّتوا لـ«بديل» كان يفترض أن يكون حريصاً على مصالحهم لا على «أفلاطونيات» واستعراضات لم تعد تجتذب أحداً.