IMLebanon

الجلسة التشريعية و«ضرورات السلطة»: متى يُقرع باب المصارف لتخفيف العجز؟

    

انسحاب نواب «المستقبل» و«القوات» من الجلسة التشريعية لم يكن مفاجئاً. ببساطة عندما انتهت الضرورة، من وجهة نظرهما، انتفى سبب البقاء في الجلسة. أما حقوق الناس ومطالبهم فتلك أمور ليست ضرورية و«تثقل كاهل الدولة». ولذلك غالباً ما تلجأ السلطة إلى حلول على حسابهم، متجاهلة أبواب الإنفاق الأخرى كخدمة الدين وعجز الكهرباء

 

عندما هدد الرئيس سعد الحريري بالانسحاب من الجلسة التشريعية، إنما أراد أن يثبّت عرفاً لا يكسره تيار المستقبل إلا عند الضرورة، عنوانه: لا تشريع في ظل حكومة مستقيلة. وهذا الأمر تجلى بشكل أوضح عند انسحاب المستقبل من الجلسة برفقة نواب القوات اللبنانية بعد انتهاء مواد جدول الأعمال التي تدخل في عداد تشريع الضرورة من وجهة نظرهم. إعطاء الحقوق لمستحقيها لم يصنّف من ضمن سلة الضرورة المستقبلية. ولذلك تحديداً لم يكن بالإمكان مناقشة البند رقم 17 المتعلق بتعيين نحو 2000 أستاذ ثانوي ينتظرون تعيينهم منذ زمن. علماً أن المجلس كان قد أقر بند تعيينهم ثم رده رئيس الجمهورية لتعديله، فأعيد إقرار التعديل في لجنة التربية التي ترأسها النائبة بهية الحريري. تلك كانت إشارة إلى تأييد الرئيس الحريري لهذا القانون، لكن أمراً ما طرأ لم يُعرف ما هو: هل تراجع الحريري عن موافقته عليه أم أنه سعى إلى تأجيل النقاش ربطاً بتقديره للضرورة؟ الأكيد أن الضرورة المستقبلية كانت محصورة بالموافقة على قروض خارجية وبعض «الإصلاحات» المطلوبة أيضاً. ولذلك، كان عادياً أن يسعى إلى تمرير بند، من خارج جدول الأعمال، وقبل مناقشة أي أمر آخر (بعد إقرار بند الإسكان) يتعلق بالموافقة على قرض لتطوير مرفأ طرابلس. وكذلك كان عادياً أن يردّ على إصرار بقية الأطراف على السير بجدول الأعمال كما هو (من دون اعتراض على إضافة أي بند من خارج جدول الأعمال في نهاية الجلسة) بالانسحاب من الجلسة.

طار بند الأساتذة كما طارت بنود ضرورية أخرى تتعلق بحقوق اجتماعية ووظيفية وتقاعدية مثل اقتراح قانون المفقودين. لكن أحداً من النواب لم يشعر أن ثمة حاجة لافتعال مشكلة تكسر التوافق القائم في البلد، والذي يبدو لافتاً أن تعثّر تشكيل الحكومة لا يعرقله.

ليس الأساتذة هم المقصودون حصراً بانسحاب «المستقبل» و«القوات»، إنما القناعة المستقبلية أن زيادة النفقات لا تفيد حالياً (استثني بند دعم فوائد الإسكان)، فكان التركيز على أولوية إقرار القروض الخارجية، التي لم تُطلب من مؤتمر «سيدر» كما يُروّج، إنما كان متفقاً عليها قبل المؤتمر. علماً أن ذلك لا ينفي عنها صفة الضرورة، بالنسبة لمعظم الكتل، خصوصاً أنها مرتبطة بمهل وإذا لم يقرها المجلس النيابي، فإن الأموال المرصودة للبنان قد تذهب إلى بلدان أخرى. وهذا لا يلغي حقيقة أن هذه القوانين هي جزء من سلسلة يستكملها مؤتمر «سيدر»، الذي لا تزال تقف أمام تنفيذ مقرراته عقبة أساسية هي عدم تأليف الحكومة.

ضمن الحريري عدم خسارة القروض، كما ضمن إدخال نحو نصف مليار دولار إلى البلد، «يمكن أن تساهم في تخفيف الضغط عن الليرة، وكذلك في تحريك بعض الأعمال»، وهذا هدف كان يؤيده معظم الذين كانوا في المجلس النيابي، بحسب ما أظهر أداؤهم. وعندما انتهت هذه الضرورة المستقبلية لم يسع أحد إلى افتعال مشكلة لدى انسحاب نواب «المستقبل». سار الأمر بشكل تلقائي كما لو أنه سيناريو معد سلفاً. علماً أنه سبق أن سرت إشاعات تؤكد أن هذا السيناريو هو الذي سينفّذ. نواب كثر راهنوا قبل الجلسة أنها ستنتهي عند البند 16 (بند الإسكان). صحيح أن هذا ما حصل تماماً، إلا أن السبب لم يكن فقدان النصاب، إنما رغبة بري في عدم استكمال الجلسة في غياب مكونات أساسية. يشير أحد النواب الذين دفعوا باتجاه استكمال جدول الأعمال، ثم تفهموا رفع الجلسة من قبل بري أنها كانت محكومة بثلاثة نصابات: النصاب العددي (الدستوري)، النصاب الميثاقي (حضور كل المكونات الطائفية) والنصاب التوافقي (مشاركة كل الكتل الأساسية). وعليه، فإن ما انفرط في الجلسة التشريعية الأولى التي يعقدها المجلس النيابي الجديد هو النصاب التوافقي، فرفعت الجلسة.

 

«المستقبل» نفّذ أجندته التشريعية.. و«النصاب التوافقي» سهّل له مهمته

 

عملياً، فإن أحداً من الكتل لم يخسر، بل كل منها حقق مكسباً أراده، وبخاصة بري والحريري. الثاني التزم بتشريع الضرورة عملياً، والأول لم يسجل على نفسه وضع شروط على التشريع أو حصره بالضرورة في ظل تأكيده حق المجلس في التشريع بالمطلق (بحسب المادة 69 من الدستور)، فوضع كل المشاريع التي أنجزت في اللجان على جدول الأعمال، بما فيها تغيير اسم قرية، مع إقراره بوجود قوانين ضرورية، لكن من دون أي صدام سياسي على شاكلة الالتزام بالدستور واستكمال الجلسة.

أقرت «القوانين الضرورية» التي يقول مؤيدوها إنها تخفف الضغط على البلد، لكن هل هذا كافٍ؟ ذلك يفتح الباب على نقاش معمق جرى في لجنة المال والموازنة أخيراً: لماذا يكون شد الأحزمة دائماً على حساب الشرائح الدنيا في المجتمع؟ هل انتفت الحلول، فلم يبق سوى زيادة الضرائب التي تفتقر للعدالة وتخلي الدولة عن التزاماتها تجاه المواطنين، كحرمانهم من حقهم في التوظيف أو بالتقاعد أو الطبابة أو بتسوية أوضاع عالقة؟ وإذا كان كاهل الخزينة مُثقلاً بثلاثة أبواب إنفاق: النفقات الجارية (الحصة الأكبر للرواتب) والكهرباء وخدمة الدين، فلماذا يكون التقشف دائماً على حساب الفئة الأولى؟ ألا يمكن تخفيف العجز الكهربائي أو خدمة الدين؟ الجواب كان إيجابياً: ليس صعباً تخفيف عجز الكهرباء وطبعاً ليس الحل بإلغاء الدعم، بل بإصلاحه، بما يتواءم مع فلسفة الدعم القائمة في الأساس على دعم الأسر الفقيرة أو ذوي الدخل المحدود، لا كل السكان بمن فيهم الأثرياء وحتى فاحشي الثراء. أما في ما يتعلق بخدمة الدين، وهو في معظمه دين داخلي، فكان الطرح هو التالي: من مصلحة المصارف المساهمة في الخروج من الأزمة الاجتماعية – الاقتصادية – المالية – النقدية التي تواجه البلد. وهذا عملياً يمكن أن يتحقق بالكثير من الطرق منها شطب بعض الديون أو شطب الفوائد. ذلك ليس أمراً يمس بمكاسب هذه الفئة. دول كثيرة تلجأ إلى هذا الخيار عندما تضطر. الرئيس رفيق الحريري نفسه، سبق أن استدعى مسؤولي المصارف بعد باريس 2، قائلاً: «حصلنا على قروض بفائدة صفر في المائة في المؤتمر، والأولى بكم أن تقوموا بالأمر نفسه»، فوافقت المصارف على إقراض الدولة نحو ثلاثة مليارات دولار من دون فوائد.