خلافاً لكل النظريات التي رافقت تعطيل الجلسة التشريعية الثلثاء الماضي، ورغم احتفال الحراك الشعبي بنجاحه في الغائها، وتعبير آخرين عن الأسف الشديد لعدم ضمان القوى العسكرية والأمنية إبقاء أحد المسارب مفتوحاً الى ساحة النجمة، هناك من يرى انّ ما جرى انقذ السلطة التشريعية من مأزق كبير وحمى الإنتفاضة من مأزق أكبر. كيف تمّ التوصل الى هذه المعادلة؟ ولماذا؟
في غمرة ردود الفعل المختلفة والمتناقضة التي رافقت إلغاء جلسة مجلس النواب التشريعية أمس الاول، في اعقاب الحصار الشعبي المُحكم على المسالك المؤدية الى ساحة النجمة، وسدّ المنافذ أمام النواب الذين رغبوا في المشاركة فيها على قلّتهم، ثمة كلام كثير يمكن أن يُقال في شكل ومضمون وحقيقة ما حصل وما آلت اليه من تردّدات. فالسيناريوات المتعدّدة التي يمكن استخلاصها تفضي الى الإلتقاء في مكان ما يصبّ في مصلحة النظرية التي تقول، إنّ ما جرى أنقذ المجلس النيابي، كما أنقذ الإنتفاضة من مآزق محتملة قريبة وبعيدة الأجل.
وبناءً على ما تقدّم، فأقل ما يمكن الإشارة اليه من ترددات ما حصل، يكمن في ما برز من خلافات الى السطح تهدّد شكل العلاقات بين من أصرّ على الجلسة ومن سعى الى تعطيلها بتغيّبه أو مقاطعته، وما بينهما الحملة المبرمجة على القوى العسكرية والأمنية، التي اتُهمت صراحة بتسهيل مهمة المتظاهرين في الإطباق على مجلس النواب. عدا عن الأطراف التي رحّبت واعتبرت انّ ما حصل شكّل انجازاً للحراك الشعبي وعطّل بعضاً من اقتراحات القوانين التي يجب ان لا تمرّ.
وعند الدخول في التفاصيل، لا بدّ من الإشارة الى أنّ الغاء الجلسة قد وفّر على المجلس انقساماً طائفياً ومذهبياً كان متوقعاً، ليس في الشق الأول منها عند انتخاب رؤساء ومقرري اللجان واعضاء هيئة مكتب المجلس، بل في البحث في سلسلة من اقتراحات القوانين التي كانت مطروحة على جدول اعمالها.
فقد كان واضحاً انّ ردود الفعل على قانون العفو العام كانت ستُحدث، لو بقيت الجلسة، فرزاً مذهبياً وطائفياً. المتحمسون للإقتراح كانوا من المسلمين. فتيار «المستقبل» سبق له ان أغدق الوعود اكثر من مرة في هذا الشأن بتغطية مباشرة من دار الفتوى والمرجعيات الدينية. وكذلك اندفع نواب كتلتي «التنمية والتحرير» و«الوفاء للمقاومة»، ومعهم حلفاؤهم.
فليس خافياً على أحد انّ القانون سيريح قواعدهم الشعبية في طرابلس وشرق صيدا وبعلبك الهرمل ومناطق مختلفة من البقاع والضاحية الجنوبية، حيث عشرات الآلاف من الإستنابات القضائية ستُلغى، ومعها آلاف اللوائح الخاصة بالمطلوبين، سواء لجهة الجرائم المرتكبة او لجهة كل ما يتعلق بزراعة المخدرات وتجارتها، ما دامت كل مشاريع الزراعات البديلة بقيت حبراً على ورق.
وفي المقابل، لم يتبرّع لتغطية اقتراح القانون اي من الكتل النيابية المسيحية، حتى أنّ حليف الثنائي الشيعي «التيار الوطني الحر» كانت له ملاحظات لا تُحصى ولا تُعدّ على اقتراح القانون، لما فيه من شوائب تلتقي ومواقف كتلتي نواب «الكتائب» و«القوات اللبنانية» وحلفائهما. فالملاحظات تنسف إقتراح القانون من أساسه، وهم يلتقون على القول إنّه يعطّل مسار الأجهزة الأمنية والقضائية ويشجع على ارتكاب الجريمة في ظل امكانية التفلّت من العقاب.
كما يوفّر العفو لمن ارتكب جرائم العنف الأسري والاغتصاب، ويساوي مروجي المخدرات بضحاياهم ويعفي من جرائم الأرهاب والعصابات. وإن استثنى المعتدين على الجيش والقوى الأمنية حصراً، فإنه يتيح فرصة العفو عن المخططين.
وعلى المقلب الآخر، كان يمكن للجلسة لو انعقدت وأُقرّ قانون العفو العام، كما هو بالصيغة المقترحة، ان يتسبّب بانقسامات حادّة بين جماهير ساحات الإنتفاضة في اكثر من منطقة من لبنان. فإرضاء القوى الإسلامية في طرابلس كان سينعكس تلقائياً على الحراك القائم ويهدّد الإنتفاضة اليومية في «ساحة النور» ومناطق أخرى. فجماهير المستفيدين من قانون العفو لم يوفّروا التحذير المُسبق من مغبة تجاهل القانون المُنتظر منذ سنوات، وإن كان يستثني المحكومين بجرائم الإعتداء على القوى العسكرية والأمنية، فهذه من القضايا التي تقضّ مضاجع أهالي الموقوفين الإسلاميين في المنطقة.
ولذلك، كانت هناك نظريات أخرى قالت إنّ القانون سينعكس على ساحات الإنتفاضة القائمة في بعلبك الهرمل وبعض المناطق الأخرى من قرى البقاع الشمالي، الذين ينتظرون الغاء عشرات الآلاف من هذه المذكرات التي تحدّ من حركة آلاف الفارّين من وجه العدالة الى الجرود وتؤمّن لهم العودة المطمئنة الى منازلهم وقراهم، وهي سبب لا يُستهان به، قاد البعض الى المشاركة في ساحات الإعتصام رفضاً لحجم البطالة واهمال الدولة لمناطقهم وتجاهلهم، رغم الحديث الدائم عن التنمية المستدامة.
على هذه الخلفيات، لا يتجاهل المراقبون عند البحث في الإصرار على بعض القوانين لإمرارها في الجلسة، لأنّها تستهدف بشكل من الأشكال تقليص الإندفاعة الى التظاهر رفضاً لواقع صعب تعدّدت اسبابه، وكانوا يعتقدون انّ مواجهتهم بهذه القوانين، كما قانون إنشاء محكمة خاصة للجرائم المالية، على انّها من مطالب الحراك الشعبي، وهي لغة استُخدمت في الأيام القليلة الماضية لدعم وجهة النظر التي تدين من عطّل أعمال الجلسة التشريعية، متجاهلين الرأي الذي يقول إنّ بت المحكمة الجديدة الخاصة بالجرائم المالية يهدف في صلبه والآلية الجديدة المعتمدة في اقتراح القانون الذي لم يمرّ، ليتحوّل الى شبيه بالمجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء.
ولتتحوّل الى محكمة لن تجتمع يوماً، كما المجلس، ولن تُحاكم أحداً طالما انّ المحكمة تجاهلت وجود المحاكم التي ترعى مثل هذه الحالات، لمجرد ربطها بمجلس النواب وجعل تأليف هيئتها بالانتخاب في هيئته العامة، كالمحامين العامين وقضاة التحقيق، وحصر الاحالة اليها بإخبار يتقدّم به 10 نواب على الأقل أو بناءً على تقرير من التفتيش المركزي أو على قرار من ديوان المحاسبة، وبالتالي فإنّه يمنع المتضرّر من الادّعاء مباشرة أمامها.
وبناءً على كل ما تقدّم، يصرّ اصحاب النظرية القائلة، إنّ تطيير الجلسة أنقذ المجلس النيابي وأرجأ مشاريع ضرب الإنتفاضة من الداخل. وعلى كل هذه الإعتبارات بُنيت النظرية التي قالت إنّ الحراك انقذهما معاً. أنقذ السلطة التشريعية من «سقطة مذهبية» والإنتفاضة من «انتفاضة داخلية». وعليه يرغب البعض من اصحاب هذه النظرية اختصارها بقول الرئيس نبيه بري «رُبَّ ضارة نافعة»، دون ان يعتقد أحد آخر انّ هذا ما قصده بري.