على بعد أقل من شهر من العيد الـ57 للإستقلال حينما تصدّى المفتي محمد توفيق خالد للفرنسيِّين دفاعاً عن المتظاهرات؟
يصف منير تقي الدين الذي أرخ يوميات ووقائع الاستقلال التظاهرة النسائية ضد الانتداب في تشرين الثاني 1943 فيقول: «حاول بعض رجال الشرطة، أن يفرقوا النساء بالقوة، أما السيدات فقد آلين أن لا يتراجعن، وأن يقتحمن قوة الشرطة، ولو كلفهن ذلك التعرض للنيران والقتل وأخذتهن موجة من الحماسة والبأس، فهاجمن صفوف الشرطة وهن يعيرنهم بخيانة وطنهم، وانبرت إحداهن تصيح في وجه أولئك الرجال: أنتم رجال، وتفعلون هذا، أفيكم شرف وتقفون في وجه وطنكم، يا ويلكم تخونون أمتكم وتتعرضون لسخطها، أصوات أخواتها تتعالى: دعوا عنكم هذا الذل، والحقوا بهم في بشامون إن كنتم رجالاً، لقد أهنتم الأرزة على قبعاتكم، فانزعوها، فأنتم لستم لبنانيين.
وأثارت هذه الكلمات في نفس قائد الشرطة الحنق والغضب، بينما أثارت في نفوس رجاله الخجل والأسف، فلما علا صوت المفوض الصاخب، أمر رجاله بالهجوم على المتظاهرات، وتفريقهن بالقوة والسلاح، لم يجد منهم مجيباً، بل وجدهم كلهم مطرقين، فصفقت عندئذ السيدات وهتفن، وتركن الضابط وتابعن طريقهن حتى بلغن دار المفتي في المصيطبة، ولكنهن لم يكدن يصلن، حتى وصلت في أثرهن أربع سيارات كبيرة، واثنتان صغيرتان مشحونة كلها بالجنود السود وعلى رأسهم ضباط فرنسيون، فنزلوا منها وسددوا بنادقهم ورشاشاتهم إلى المتظاهرات، فصاحت فيهن سيدة بلغة فرنسية ممتازة: لمن أتيتم بكل هذه القوات!
هل الحرب هنا؟
إنكم مخطئون، الحرب بينكم وبين الألمان، لا بيننا وبينكم، اذهبوا إلى بلادكم وحرروها من نير الأجنبي وهناك أظهروا رجولتكم.
وهنا، تقدم سماحة مفتي الجمهورية الأكبر وقد تملكه الاستياء وقال للسيدة:
– أنتِ على حق سيدتي – وأشار إلى قائد الحملة الفرنسي، طالباً إليه بغضب سحب الجيوش حالاً، وهنا هاج الشبان وماجوا، وكاد الجدال ينتهي بمعركة، لولا حكمة سماحة المفتي الذي كانت كلمته مسموعة عند الشباب ومحترمة، ولولا أن بادر الفرنسيون والسنغاليون إلى الانسحاب أكثر من مئتي متر من أمام باب الدار ينتظرون خروج المظاهرة».
وفي ظل احتدام المعركة الاستقلالية، كان قد وصل إلى لبنان من الجزائر الجنرال كاترو في صباح 16 تشرين الثاني 1943، وكان من القلائل الذين التقى بهم للوقوف على رأيهم سماحة مفتي الجمهورية الذي أفهم كاترو أن الثورة الاستقلالية لن تهدأ حتى خروج قادة الدولة من السجن ونيل لبنان الاستقلال التام، مستنكراً في ذات الحين ما أقدم عليه هللو من تصرف أخرق في وقت تحتاج فيه فرنسا التي احتل النازيون عاصمتها إلى تأييد العالم أجمع.
وفي الأول من كانون الأول 1943 الموافق في 3 ذي الحجة 1362 هـ زار سماحة مفتي الجمهورية الأكبر الشيخ محمد توفيق خالد رئيس الجمهورية الشيخ بشارة الخوري الذي كان يجمع حكومته برئاسة الرئيس رياض الصلح، مهنئاً بعد عودتهم من المنفى، وألقى كلمة حملت أبعاداً وطنية هامة جاء فيها:
«لقد عاد الحق إلى أهله، وانتصرت كلمة الأمة ومشينا في طريق الاستقلال خطوات بعيدة، وإننا نحمد الله الذي كتب لهذا الشعب أن يسطر في كتاب تاريخه أنصع صفحات العزة والكرامة بفضل اتحاده وصلابته.
وإننا في هذه المناسبة، نتوجه بأكرم التحية إلى أرواح الشهداء الأبرار الذين لم يضنوا بدمائهم في سبيل قضية بلادهم، تغمدهم الله برحمته وأسكنهم فسيح جنانه.
وإن هذه الأمة التواقة إلى المجد تنظر بعين ملؤها الفخر والإعجاب إلى أولئك الرجال الذين دافعوا بكل ما ملكت أيديهم عن الأمانة التي وضعناها بين أيديهم وفي أعناقهم، أولئك هم فخامة رئيس الجمهورية ودولة رئيس الوزراء ومعالي الوزراء ونواب الأمة الذين أجمعوا على تعضيد حكومتهم وسفهوا كل من حدثه نفسه بالاعتداء على حقوقهم.
إننا من ورائهم ما داموا يكافحون في سبيل الحرية ولهم الحسن عند ربهم ولهم إجلال الأمة ولهم تخليد التاريخ.
إننا من ورائهم ما داموا يكافحون في سبيل حرية بلادهم وما داموا يسيرون في طريق العز والكرامة، إن لبنان اليوم لفي أسعد أيام حياته وكيف لا يكون كذلك وقد جمعت الروح الوطنية بين أبنائه فلم يبق بيننا في الوطن ما يفرقنا وأصبحنا بنعمة الله إخواناً.
إن لبنان أصبح اليوم للجميع لأنه عاد إلى وجهه المستحب – وجه الحرية والاستقلال – والعزة – والسيادة.
هذا هو لبنان الذي نحبه وسنعمل جميعاً على إبقاء وجهه الصحيح ونكون جميعاً فدى له وسياجاً، ولبنان اليوم يضع ثقته كلها بحكومته ومجلسه العاملين على خدمة مصالحة العليا وعلينا أن نحيط بالقائمين على الحكم بتأييدنا لنفسح لهم مجال العمل المثمر باتحادنا وهدوئنا.
ومن نعم الله على هذا الشعب أنه قد أصبح واعياً الوعي القومي الصحيح فأصبحت الدسائس التي يحوكها دعاة السوء لا تروج عنده ولا تنطلي عليه – وها هم منذ أسابيع طويلة يحاولون بذر بذور الشقاق في صفوفه بأنواع الإشاعات والأكاذيب – ولكن صفوفه متراصة كالبنيان المرصوص هيهات أن ينالوا منها أو يوهنوها.
وأخيراً إنني أتوجه بالشكر إلى الدول العربية الشقيقة وممثليها الأعزاء وأنا أعلم أن تلك الدول ليست بحاجة إلى الشكر إذ إنها عملت مدفوعة بالقومية والأخوة.
فلبنان وأخواته شركاء بالسراء والضراء، ألم لبنان ألمهم وسعادة لبنان سعادتهم.
وأما الدول الحليفة التي تفهمت عدل قضيتنا وساعدت على حلها وإحقاق الحق في بلد يجاهد في سبيل الحق، فإليها أخلص عرفان الجميل منا ولا ننسى ما قدمته لنا فزادت ثقتنا بميثاق الأطلنطيك وبقيمة العهد الذي قطعه الحلفاء.
أخذ الله بيدكم ووفقنا جميعاً إلى ما فيه خير هذه الأمة وسعادتها».
وبوضوح وطني وقومي حدد سماحة المفتي دور وموقع لبنان في العام 1944 فقال: «نحن نعلم أن الميثاق الذي اجتمع اللبنانيون حوله، المسلمون والمسيحيون، يقوم على قاعدتين متساندتين: الاستقلال والعروبة».
أضاف: لقد وقف المسلمون فيما مضى من لبنان وقفة سلبية، إذ كان غريباً عن حقيقته، فلما عاد إلى وجهه المتألق بالعزة والكرامة، عادوا إليه بوجهه المتألق بالعزة والكرامة، عادوا إليه يبذلون النفس والنفيس في سبيل الذود عن حقوقه والدفاع عن حرياته».
يتابع سماحته في المناسبة نفسها فيقول: «إن لبنان المستقل الحر العزيز لا يستطيع أن يقبع في زاوية خالية نائية عن أشقائه، فهو دعامة من دعامات سياستهم الدولية، وهم سياج لحريته واستقلاله».
وحدد دور الطوائف بقوله: «ورجائي إلى إخواني رؤساء الطوائف أن نكون جميعاً عامل ألفة ووفاق وجمع وتوحيد، فندعو إلى الوطنية الحقة العاقلة الواعية التي تعرف أن الشورى خير أساس لبناء الوطن، وأن الثقة المتبادلة بين جميع الطوائف هي الضمان الأكبر لبقاء الوطن».
ولقد تبدّى بوضوح موقف سماحته بتصديه لمحاولات عزل لبنان عن محيطه العربي، وذلك حينما صدرت بعض الأصوات في لبنان ترفض أن ينضم لبنان إلى بروتوكول الإسكندرية الذي أقر عام 1944، وكان الوفد اللبناني إلى تلك المحادثات برئاسة الرئيس رياض الصلح الذي غادر بيروت في أواخر أيلول، وانتهت المشاورات في 9 تشرين الأول، حيث وضع النص النهائي وسمي «بروتوكول الإسكندرية» جاء فيه بما يخص لبنان «تؤيد الدول العربية الممثلة في اللجنة التحضيرية مجتمعة احترامها لاستقلال لبنان وسيادته بحدوده الحاضرة».
ورغم هذا الوضوح في النص فقد طلعت أصوات ترفض أن يكون لبنان ممثلاً مع شقيقاته العربيات، وهذا ما دعا سماحته لأن يوجه كتاباً إلى رئيس الجمهورية بشارة الخوري مستغرباً الموقف والمعارض للبعض ومنهم «ذوو مقامات عالية» فجاء في كتابه «كلما فكرت، فيما يبعث على طمأنينة إخواننا المسيحيين من أبناء لبنان ويجلب الراحة المطلقة لخواطرهم ونفوسهم، فلم أجد أكفل مما تضمنه بروتوكول الإسكندرية، سواء من حيث نوع رابطة التعاون التي انطوى عليها، أم من حيث الضمانة الاجتماعية التي احتوى عليها تأييد استقلال لبنان وسيادته في حدوده الحاضرة».
أضاف: «لا أكتمكم يا صاحب الفخامة أنه أسفني كثيراً وأحزنني أن أرى بعض أولئك الإخوان الأعزاء – ومنهم ذوو مقامات عالية وكلام مسؤول – يقفون من بروتوكول الإسكندرية موقف المتحفظ وموقف المعارض أيضاً».
تابع سماحة المفتي: «إنكم تعلمون يا فخامة الرئيس، ما كان للمسلمين الذين تضمهم الجمهورية اللبنانية من مطامح وآمال، منها الالتحاق بسورية الكبرى، ومنها الدخول في وحدة عربية شاملة كاملة، وتذكرون نضالهم الطويل خلال خمسة وعشرين عاماً، وتضحياتهم الغالية في هذا السبيل.
وتعلمون أيضاً أنهم ما عدلوا عن هذه المطامح وما تخلوا عن تلك الآمال، ملزمين أنفسهم بارتضاء لبنان في كيانه وحدوده الحاضرة وطناً لهم، إلا رغبة في توحيد الكلمة بينهم وبين إخوانهم المسيحيين من أبناء وطنهم، وذلك على أسس تلك السياسة الحميدة الرشيدة التي رعيتموها بحكمتكم وغذيتموها بجهدكم وسهركم، وأجملها البيان الوزاري لحكومة صاحب الدولة رياض بك الصلح الأولى التي أحرزت عليه ثقة مجلس النواب اللبناني بالإجماع في 7 تشرين الثاني سنة 1943، وهي استقلال تام ناجز للبنان بحدوده الحاضرة وسيادة وطنية كاملة، من جهة، وتعاون أخوي كامل مع البلدان العربية إلى أقصى حدود التعاون الذي لا يمس استقلال لبنان من جهة أخرى.
وقال: «إنكم لتقدرون إذاً الخيبة التي يحدثها في نفوسهم ذلك الموقف الذي يقفه من مشروع جامعة الدول العربية بعض ذوي المقامات العالية وبعض الجماعات من المواطنين» آملاً من رئيس الجمهورية أن يلعب دوره «في أن تبصروا المترددين والمتحذرين» بما يفيد لبنان العزيز».