أن يرفض رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي إلقاء عناصر «داعش» عند حدود بلاده، ويُعلي الصوت هو وغيره من المسؤولين الرسميين في بغداد، ضدّ ذلك «الاتفاق» الذي أبرمه «حزب الله» مع تلك الجماعة الاستثنائية، في إرهابها ووظيفتها وارتباطاتها وطلاسمها وممارساتها الممنهجة والمرتّبة والمرعية والمعولمة، فذلك في ذاته يكفي لبناء قضية إدانة كبرى، من حق مَن يفعل غير ما يدّعي. ومَن يدّعي أموراً كبيرة ويرتكب صغائر. ومَن يذهب في التبعية إلى حدود الذوبان الصوفي في إرادة إيران وقراراتها وسياساتها وحساباتها ومشاريعها.
الآن، بعد انتهاء قصة «داعش» في فصلها اللبناني، يمكن فهم لماذية النفخ الاستثنائي المفتعل الذي اعتمده «حزب الله» بعد «تحرير» جرود عرسال من جماعة «النصرة».. وباتفاق قريب من ذلك الذي أنجزه مع «داعش». بحيث أن المطلوب كان ولا يزال، هو التأكيد التلقائي المعتاد على ثبوت دور «المقاومة» في «تحرير الأرض اللبنانية المحتلة».. ثمّ الأكثر ضرورة وأهمية، التغطية المسبقة على الفضيحة الآتية المتمثلة باستحضار قيم «الوفاء» والأبعاد الدينية، لتبرير «تكريم» عناصر «داعش» وتأمين انتقالهم بأمن ويُسر ومتابعة وحماية، إلى منطقة البوكمال المحاذية للحدود العراقية!
وظيفة الحضور المتتالي غير المسبوق (بالمناسبة) للأمين العام لـ«حزب الله» السيد حسن نصرالله شخصياً كانت تحديداً، كبح جماح الاستطرادات والأسئلة الصعبة والاستنكارات والاستهجانات المرتقبة لتلك الفضيحة التي لا يليق بها غير هذا التوصيف! ثم محاولة لجم استعادة التاريخ (القصير جداً) العائد للسنوات الثلاث أو الأربع الماضية تحديداً والمليء على ما تبيّن، بمواقف قاطعة حاسمة نارية أسيدية حارقة، إزاء «الإرهاب» عموماً، و«داعش» خصوصاً، والتي اشتملت في العام الماضي، على محاضرة مُوجّهة إلى العراقيين في مراكز القرار والحكم، تدلّهم على الطريق الواجب سلوكها في التعامل مع ذلك التنظيم الإرهابي الأحجية.. وتحذّرهم من التراخي في تطبيق أحكام الإبادة التامّة والعقاب الصارخ في حق عناصره!
غير أن المهم والأهم في المواقف المندّدة والمستهجنة لما فعله الحزب، ليس ذلك المتأتي من أخصامه المحليين في لبنان، ولا من غيرهم (على أهميته)، إنّما ذلك الآتي من بغداد على لسان حيدر العبادي خصوصاً. فالرجل في كل حال، من «أهل الدار» وليس غريباً عن إيران وإن كان متمايزاً. وليس من السهل أبداً، وصمُهِ بما يُوصَم به «أعداء» الحزب وأخصامه! لكن استثنائيته تكمن في تظهيره بُعداً سيادياً وطنياً استقلالياً إزاء إيران و«قرارات» إيران. و«رغبات» إيران. و«حسابات»إيران. و«مشاريع»إيران.
بهذا المعنى المباشر، أظهر رئيس الوزراء العراقي، مرّة أخرى، أنه يؤثر مصالح بلاده و«مشاعر»أهلها ورغباتهم على مصالح إيران ورغباتها! وأنه ليس مجرّد تابع ينفّذ الأوامر حتى لو كانت ضدّ قناعاته! وليس متماهياً إلى حدود الذوبان الذي يعتمده«حزب الله»في لبنان.. وقد ذهب، إلى السعودية في ذروة احتدام التوتّر بينها وبين جمهورية «الولي الفقيه»انطلاقاً من ذلك المفهوم الواضح والليزري القائل في خلاصته، إن العراقيين ليسوا حطب مواقد الطموحات الإيرانية! وليسوا في كل حال، وكل الأحوال، مستعدين لخوض معاركها! والاستمرار في المشي على الجمر من أجل تبريد حرارتها! وتلطيف مناخاتها! وزيادة تمتّعها بإدّعاءات النفوذ والاقتدار وما شابه!
قبل الفضيحة الداعشية الراهنة، وقبل الذهاب إلى السعودية، قال الرئيس العبادي وقرّر شيئاً آخر لا يقلّ أهمية: أكد، ردّاً على بالونات اختبار، أطلقها بعض قادة«الحشد الشعبي»المرتبطين مباشرة بالجنرال قاسم سليماني، إن العراق بعد معركة الموصل، لن يتدخّل (ويلاحق)«داعش»داخل سوريا. ولن يسمح للحشد بأن يعبر الحدود في ذلك الاتجاه! ولم يقل (أو يقرّر) شيئاً قريباً من الذي قاله وقرّره وفعله «حزب الله» عندنا، ولا يزال في الداخل السوري تنفيذاً لأوامر«الولي الفقيه» والتزاماً بفتاواه! برغم أن ما فعله الإرهاب بالعراق والعراقيين فعلياً وعملياً وواقعياً، أكبر بمليون مرّة من الذي فعله بلبنان واللبنانيين في جرود عرسال ورأس بعلبك والقاع والضاحية! وكافٍ في ذاته، لأن يلاحقه العراقيون إلى آخر الدنيا!
درس في الوطنية والسياسة والسيادة، موقف العبادي.. أم درس في الأخلاق ومكارمها؟ أم إدانة خلّابة للمتاجرة بدماء العرب والمسلمين ولاسترخاص كراماتهم!
.. في كل الحالات: محظوظ شعب العراق! برغم كل الأهوال التي يعيشها!