بعد إعلان مؤتمر الأمن في ميونيخ عن الاتفاق على «وقف الأعمال العدائية» في سوريا٬ واصلت المقاتلات الروسية قصفها العنيف عند تخوم مدينة حلب وصولاً إلى مشارف مدينة أعزاز٬ في ما بدا أنها محاولة لإقفال الشمال التركي بالنار قبل العودة المقررة إلى جنيف في 25 فبراير (شباط) الحالي.
تصريحات وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف٬ ومن بعده بشار الأسد بأنه «لا وقف للنار قبل القضاء على المجموعات الإرهابية» لا تعني بالضرورة داعش» و«النصرة»؛ بل كل أطياف المعارضة السورية٬ التي سبق للرئيس الروسي فلاديمير بوتين أن وضعها كلها في سلة الإرهاب.
لكن ما يجري على الأرض من محيط حلب إلى مداخل أعزاز٬ يعكس توجًها قد يفضي في النهاية إلى قيام منطقة حكم ذاتي كردية مترامية في شمال سوريا٬ لأن أعزاز تشّكل مفصلاً حيوًيا بين شرق نهر الفرات وغربه٬ وهي حلقة وصل ضرورية واستراتيجية بين كوباني والجزيرة شرًقا ومناطق عفرين على التخوم الغربية لمنطقة حلب٬ وعلى هذه الخلفية الحساسة والدقيقة تثور الهواجس التركية من أن تتحول السيطرة الكردية على منطقة أعزاز مفتاًحا للتلاعب بالخريطة السورية٬ ثم بالخريطة العراقية٬ فالتركية!
وهكذا دخلت المدفعية التركية عملًيا ميدان القصف المدفعي هناك٬ في وقت ارتفع فيه الحديث عن تفعيل «التحالف الإسلامي ضد الإرهاب» الذي أعلنته المملكة العربية السعودية في 25 من الشهر الماضي٬ الذي يضم 25 دولة بينها السعودية ودول الخليج وتركيا ومصر والأردن والسودان وباكستان.. وغيرها٬ ومهماته محاربة الإرهاب بكل أشكاله ومظاهره أًيا تكن تسميته ومذهبه».
دي ميستورا الذي وصل الثلاثاء إلى دمشق في محاولة لاستنقاذ مؤتمر جنيف الذي يفترض أن يعقد يوم الخميس المقبل٬ يدرك تماًما أن أحابيل النظام في الحديث عن الموافقة على إدخال المساعدات الإنسانية٬ لن تعني شيًئا مغايًرا لأكاذيب الماضي٬ خصوًصا عندما يكرر الأسد ما أعلنه لافروف من أن المفاوضات لا تعني وقف النار ضد الإرهابيين.
المعنى العملي لكل هذا أن المساعدات الإنسانية ستصل إلى مؤيدي النظام٬ وأن مؤتمر جنيف في محطته الجديدة٬ إذا عقد٬ سيراكم الفشل بسبب عدم التزام الروس والنظام السوري والإيرانيين وجماعاتهم٬ بإعلان وقف الأعمال العدائية٬ فعلى العكس تضاعفت وحشية القصف وحدته إلى درجة لم توّفر المدارس والمستشفيات٬ ولهذا لم تتردد الأمم المتحدة بداية الأسبوع في إصدار بيان يدين بقوة إطلاق صواريخ قتلت نحو خمسين مدنًيا بينهم أطفال وأوقعت عدًدا من الجرحى في خمسة مستشفيات ومؤسسات طبية٬ بينها على الأقل واحدة تتلقى دعًما من منظمة «أطباء بلا حدود»٬ إضافة إلى مدرستين في حلب وإدلب!
طبًعا لا معنى لبيانات التنديد هذه ولو كانت وزارة الخارجية الأميركية كانت أكثر حدة من بان كي مون في إدانة هذا القصف وفي توجيه الاتهام إلى «وحشية نظام الأسد٬ وإلى عدم رغبة موسكو في المساعدة على وقفه٬ وهو ما يثير استياء واشنطن الشديد»!
استياء واشنطن؟
لكن باراك أوباما لا يبدو مستاًء٬ حتى بعدما رد النظام السوري على إدانة قصف المستشفيات بالقول إن منظمة «أطباء بلا حدود» هي فرع للاستخبارات الفرنسية٬ وإنها هي التي تتحمل المسؤولية٬ وحتى بعدما قال بشار الجعفري في الأمم المتحدة إن «التحالف الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة هو الذي قصف المستشفيات»!
باراك أوباما ليس مجرد محلل أو مراقب ليبلغنا رغم كل هذا أن «تدّخل روسيا في سوريا هو دليل ضعف الحكومة السورية٬ وأنه سيكون من الكياسة (الكياسة هكذا بالحرف) أن يساعد الرئيس فلاديمير بوتين في عملية انتقال سياسي في سوريا»٬ ولم يتواَن في إسداء النصح لبوتين: «إنكم ترسلون جيشكم بينما الحصان الذي تدعمونه غير فّعال٬ صحيح ربما حققتم تقدًما مبدئًيا على الأرض٬ لكن ثلاثة أرباع سوريا خارج السيطرة»!
لا معنى للحديث عن استياء أميركي٬ فقبل 24 ساعة من قصف المستشفيات والمدارس كان وزير الخارجية الأميركي جون كيري يعلن أنه تحدث مع نظيره الروسي سيرغي لافروف هاتفًيا ووعده بضرورة مناقشة وقف النار٬ لكن المواقف الأميركية حيال التطورات الفاجعة في سوريا بدت منذ البداية تشي بأنه كأن أوباما قرر ترك الروس يغرقون في الوحول السورية٬ وما سترتبه عليهم تالًيا من الأثقال والمتاعب مع عالم سني يترامى إلى داخل حدود روسيا!
أضف إلى ذلك٬ أن حسابات أوباما منذ الدخول العسكري الروسي إلى سوريا في الماضي٬ باتت تنطوي على كثير من الخبث٬ كما يشرح تقرير دبلوماسي غربي مهم يرى أن أوباما يجلس متفرًجا على:
انخراط بوتين المتزايد في سوريا بما سُينهك وضع روسيا الاقتصادي المتهالك أصلاً بسبب العقوبات وتدني أسعار النفط.
المراهنة الواضحة على عدم قدرة بوتين والأسد على استعادة السيطرة على كل سوريا٬ إلا إذا قرر الدخول بعيون مفتوحة في أفغانستان سورية خاسرة حتًما.
مواجهة الهزيمة أو الذهاب إلى استحقاق لا مفر منه٬ وهو إقامة دولة الساحل العلوية٬ التي تشّكل جائزة ترضية له٬ وهنا عليه أن يتحمل مسؤولية مباشرة عن التقسيم٬ الذي تريده أميركا٬ وتصفق له إسرائيل٬ ولا يضير إيران٬ ويناسب الأسد الذي لا يريد خسارة كل شيء.
السير نحو اشتباك حتمي بينه وبين شركائه الإيرانيين الذين يقاتلون في سوريا قبله ويعدونها ولاية إيرانية تخضع لإرادتهم٬ ولن يقبلوا ضّرة روسية مضاربة
تنّغص عليهم حتى في العراق.
الوقوع في حال من العداء من العالم السني المترامي٬ فأنت لا تستطيع محالفة الشيعة والعلويين ومحاربة المعارضة السورية المدعومة إقليمًيا بذريعة الادعاء أنها كلها من الإرهابيين الذين لا تقصفهم كما تقصف المعارضة!
إًذا لماذا تتورط أميركا في سوريا عشية الانتخابات الرئاسية٬ فدعوا بوتين يشنق نفسه بحبال الأسد!
عطًفا على هذا التقرير٬ من الضروري أن نتذّكر تصريحات التهويل التي أدلى بها رئيس الوزراء الروسي ديمتري ميدفيديف في ميونيخ تارة عن الانزلاق إلى الحرب الباردة»٬ وأخرى عن أن التدخل البري في سوريا قد يتسبب في وقوع «حرب عالمية»!
هكذا بالحرف «حرب عالمية» وذلك لمجرد بدء عملية «رعد الشمال» وهي أكبر مناورات في تاريخ المنطقة يقوم بها «التحالف الإسلامي ضد الإرهاب» في منطقة «حفر الباطن» السعودية٬ ورافقتها أحاديث وتحليلات عن إمكان التدخل عبر تركيا لضرب «داعش» في الرقة داخل سوريا٬ رغم الحرص السعودي والتركي على التوضيح أن أي عملية يجب أن تتم بالتنسيق مع الحلفاء الأميركيين.
لكن أوباما يستلقي مراقًبا سياسة الاشتباك على طريقة الجودو.. ينفذها ببراعة متعّهد التدمير والتقتيل وربما التقسيم.. الرفيق فلاديمير بوتين.