Site icon IMLebanon

دَعوا الشعوبَ تَبني دولَها

 

لا توجد في العالمِ العربيّ دولٌ قوميّةٌ عَصيّـةٌ على إعادةِ النظر بوِحدتِها. كلُّ مكوِّنٍ هو، بحدِّ ذاتِه، قوميّةٌ دينيّة وإتنيّة ولغويّـة وتاريخـيّـة وثقافـيّـة. وإذا كانت القوميّة معيارَ إنشاءِ الدولِ الحاليّة في الشرقِ الأوسط، فلا دولةَ تُـطابقُ المواصفات لأن في كلِّ واحدةٍ فائضَ قوميّات. وبالتالي، جميعُها مُنذَرةٌ ـــ بالمُطَلق ــ للتقسيمِ والتفتيت.

وخلافًا لما يَظُنُّ العقائديّون، لن يكونَ البديلُ عن هذه الكياناتِ دولةً قومـيّـةً عربـيّـةً أو إسلامـيّـةً واحِدة، بل مجموعةُ دولٍ عصبـيّةٍ صغيرة، أفْـقُها القبيلةُ وطموحُها العشيرةُ وحضارتُها اللهَجةُ الـمَحكـيّةُ وثقافـتُها العاداتُ الخاصّة وعزّتُها شعورٌ بالذاتيّة. وهذا أصلاً نمطُ حكمِ الدولِ الكبيرةِ في محيطِنا.

فبعدَما كنا «مِنَ المحيطِ إلى الخليج»، أصبحنا «مِن المجرى إلى الساقية». هذا زمنُ المجاري والسقّائين، فزمنُ الأحلامِ مات مُضرَّجاً بالنَفط في مكانٍ، وبالدماءِ في مكانٍ آخَر. واعتكف الشرقُ عن إنجابِ أحلامٍ جديدةٍ خَشيةَ وأدِها.

لو كان التمايزُ في الشرقِ بين المسلمين واليهودِ أو بين المسلمين والمسيحيّين فقط، لَـهَانَ الأمرُ، لكـنّـه تمايُزٌ بين المكـوّناتِ الـمُسلِمة (شيعيُّ/سنّي، عِراقيّ/كرديّ، سُنّي/علَويّ، عربيّ/حوثيّ، خليجيّ/مشرقيّ، عربيّ/فارسيّ، إلخ.). وبالتالي، أنّى لــ«دولةِ الأمّـةِ» أن تقومَ طالما عَـمودُها الفِقْريُّ (الإسلام) مبعثَـرٌ خُـرَزًا خُـرَزًا.

لذلك، إذا كانت مكـوِّناتُ هذه الدولِ مصمِّمةً جِدّيًـا على صونِ الكِياناتِ القائمةِ بمنأى عن المعاييرِ القومـيّـةِ التقليديّة، فما عليها إلا الاعترافُ بدولةِ القانونِ كإطارٍ دُستوريٍّ يَرعى انتظامَ الحياةِ العامّـة، وممارسةُ نمطِ حياةٍ اجتماعيٍّ ذي مستوى حضاريٍّ بحيث تتكاملُ المكـوِّناتُ المختلِفةُ ولو لم تَتماثَـل.

أمّـا إذا احتَقرنا دولةَ القانونِ واتَّبعنا أنماطَ حياةٍ متناقِضة (دَخل لبنانُ في مدارِها)، فلا يَبقى ـــ بغيابِ الوِحدةِ القومـيّـة ـــ أيُّ عنصرٍ موحِّدٍ سوى حُكمٍ ديكتاتوريّ. وهذا ما حدثَ في دولِ العالمِ العربيّ، إذ ما إن تَهاوت الأنظمةُ الديكتاتوريّـةُ مرحليًّا حتّى بانت الشهيّاتُ الانفصالـيّـة.

وحدَها دولةُ القانونِ، مُسندَةً إلى مجتمعٍ متناسِقٍ، قادرةٌ على حمايةِ الكياناتِ وضمانِ رغبةِ جماعاتٍ مختلفةِ القوميّات في العيشِ معًا. غير أنَّ دولةَ القانونِ تحتاجُ مواطنين يَحترمون القوانينَ ويَتآلفون معها ويَحتكِمون إليها كمرجِعيّـةٍ للحقِّ والعدالة.

إنَّ القانونَ هو حاجةٌ قبل أن يكونَ أمرًا تَـفرِضُه الدولةُ على الناس. فلا دولةَ قانونٍ من دونِ «مواطنين قانونـيّين». وهؤلاءُ مخلوقاتٌ نادرةٌ في مجتمعاتِنا الشرقيّة حيث كلُّ قانونٍ يحتاج خُطّـةً عسكريّـة لتطبيقه.

في غيابِ القومـيّـةِ الواحِدة ودولةِ القانون ونمطِ حياةٍ متجانسٍ، طبيعيٌّ أن تظلَّ دولُنا، بل شعوبُنا في حَيرةٍ وجوديّـة. والحَـيرةُ تُولّدُ الضَياعَ، والضياعُ يُولّدُ الانحرافَ، والانحرافُ يُولّدُ العنفَ، والعنفُ هو قدَرُ مجتمعاتِنا حيث المواجهةُ بين عنفِ الدولةِ وعنفِ الجماعة. جدليّةُ العنفِ تَقتل الكيانَ والحضارةَ والثقافةَ والحياةَ المشترَكة.

وما يَزيد الوضعَ تعقيدًا، أنَّ الأوطانَ الحاليّةَ نشأت من دونِ آلـيّـةٍ ديمقراطـيّـة، فلم تَـخـتَـرْها شعوبُها بحريّـةٍ بعد انتخاباتٍ أو استفتاءاتٍ حرّةٍ أو مزوَّرة (أو ببطاقاتٍ مُمغنَطة).

هذه أوطانٌ خَرجت من مؤتمراتٍ دولـيّةٍ لا من صناديقِ الاقتراع، فجاء بعضُها عادلاً وبعضُها الآخَرُ ظالماً، فتكـيّـف المواطنون، على مَضَضٍ، مع الأوطانِ القائمةِ عوضَ أن تتكـيّـفَ الأوطانُ مع واقِعِ المواطنين وخِياراتِـهم. لذلك، تسعى جماعاتٌ شرقـيّـةٌ وغربـيّـةٌ، وقد ذاقَت طعمَ الحريّـةِ وتذوَّقت معنى حقِّ تقريرِ المصير، أن تعيدَ النظرَ في كياناتِ أوطانِها ودولِها، خصوصًا أنَّ الأنظمةَ المركزيّـةَ هـمَّشت خصوصيّاتِ هذه الجماعاتِ واضطَهدَتها وحاولت تذويبَها في قوالبَ قومـيّـةٍ وهميّةٍ وزائفة.

الجريمةُ ليست مطالبةَ الجماعاتِ بحقِّ تقريرِ المصير، بل الجريمةُ هي فشلُ الدولِ المتعدِّدةِ المكوِّنات في توحيدِ شعوبِها حولَ قيمِ الحضارةِ والتقدّمِ والإنماءِ والمساواةِ والعدالة بعد مرورِ نحوِ مئةِ سنةٍ على نشوئِها وبرغمَ امتلاكِها الثرواتِ الكافيةَ، بل الفائضةَ، للقيامِ بهذه المهمّة.

عِوضَ أن تتسابقَ الأنظمةُ الفاشلةُ والاستبداديّـةُ على تخوينِ الجماعاتِ الباحثةِ عن أمنِها وحريّـتِـها وخصوصيَّتِـها من خلال شكلٍ دستوريٍّ آخَر (فدراليّـةٌ، كونفدرالـيّـة، حكمٌ ذاتيّ، دولةٌ مستقلة)، حريٌّ بها أن تـقّدمَ نَموذجًا ديمقراطيًّا مركزيًّا ناجحًا. وإنْ من عقوباتٍ، فأوْلى أنْ تُفرضَ على الدولِ الطاغيةِ لا على الجماعاتِ المتحرِّرة. العقوباتُ لا تحمي دولةً ولا تمنعُ قيامَ دولة.

تُبنى الدولةُ كما تُبنى العائلة: بالمحبّةِ الصادِقة، بالولاءِ المتبادَل، بالتوافقِ الحرّ، بالانسجامِ الطبيعيّ، بالإنجابِ العَقلانيّ، بالتكاملِ القِـيَميّ، وبالتضامنِ في السرّاءِ والضرّاء. أين نحن في لبنانَ والشرقِ من هذه الأسُس؟ تكادُ تكونُ كلُّها مفقودةً ونعيشُ على نقيضِها.

صُنِعت دولـنُـا من دونِ مواطنين، ولمّا استفاقَ المواطنون من تخديرِ العقائدِ وكَسروا عُقدةَ الخوفِ من الأنظمة، وقـرّروا صناعةَ وطنٍ، اكتشفوا أكثرَ من وطنٍ في دولةٍ واحدةٍ لأنَّ الوعيَ الوطنيَّ ظلَّ دونَ العصبيّـةِ الدينيّةِ والمذهبيّة بغيابِ عدالةِ الدولةِ الكبيرةِ الواحِدة.

إنَّ الحكمةَ تَقضي بأن تَستفيدَ شعوبُ المِنطقة من هذا الزلزالِ العسكريِّ الذي أصاب دولَ المشرِقِ وما رافقَه من تهجيرٍ ونزوحٍ وتغييرٍ ديمغرافيٍّ، من أجلِ بناءِ دولٍ على قياسِ مكـوّناتِـها الأساسيّةِ والتاريخيّة.

أما إذا أَعَدْنا ما كانَ كما كانَ، فإننا نُـؤسِّس لزلازلَ دوريّةٍ جديدةٍ لأن ألمَ الاضطهادِ والإبادةِ أقوى من أيِّ وِحدةٍ مُلـفَّـقة. إنَّ الكياناتِ الكبرى كانت كابوسًا على أقلـيّـاتِ الشرقِ وأكثريّـاتِه، ليس لأن الوِحدةَ مشروعٌ سيّئٌ ، بل لأن خصوصيّاتِ الشرقِ أكبرُ من عموميّاتِه، وقوميّاتِه الصغيرةَ أمتنُ من قوميّاتِه الكبيرة.

في هذا السياق، إنّ الوطنَ اللبنانيّ لـم يقرِّرْهُ المواطنون المسيحيّون أو المسلمون، بل «صَنعتْه» نخبةٌ لبنانـيّـةٌ مسيحـيّـة / مسلِمةٌ بدعمٍ فرنسيّ. ومع أنَّ لبنانَ الكبير هو ـــ أو كان ــــ أكثرَ الدولِ تقدّمًا ورقـيًّا وصاحبَ الديمقراطـيّـةِ الوحيدةِ في العالم العربي، نجدُ اليومَ، بعد مئةٍ سنةٍ، من يرفضُ اعتمادَ الأوّلِ من أيلول عيدًا وطنيًا.

وإذ أشكرُ هؤلاءِ الرافضين لأنّهم فَضحوا مشاريعَهم المُضمَرة وبرّروا التفكيرَ بالبدائلِ عن هذه الوِحدةِ الفاشلةِ، أَلفِتُ إلى أنْ لا قيمةَ لأيِّ عيد، لاسيما عيدَي الاستقلالِ والتحرير، بغيابِ الإيمانِ بلبنانَ الكبير. فأَيُّ لبنانَ استقلّ، هل بلدةُ «بشامون» فقط؟ وأيُّ لبنانَ تحرّر، هل قريةُ «زوْطرُ الغربـيّـة» فقط؟