IMLebanon

لنَعُد الى التعريفات الأولى

باتت كلمات مثل «الشعب» و»المجتمع» و»الدولة» و»الحكومة» و»المواطن» من صميم قاموس المصطلحات السياسية العربية المتداولة يومياً والمستخدمة في وسائل الإعلام وبين الناس في البلدان العربية، في وقت تعلن الإنهيارات المتعاقبة لأشكال الحكم القائمة في منطقتنا ان ثمة ما فاتنا من قبل تبني هذه المفاهيم وإدخالها الى لغتنا وسياستنا وعالمنا.

الأمر ليس بالبداهة المتخيلة. معروف ان هذه المصطلحات تعرضت لعمليات نحت طويلة قبل ان تستوي مفاهيمَ سياسية وحقوقية ودستورية. وأن كلاً منها ارتبط بمسار تطوري خاص به متواز مع مسارات في الاجتماع والاقتصاد في البلدان والحضارات التي شهدت البدء باستخدام المفاهيم والمصطلحات المذكورة. «الشعب» ليس مجموعة السكان داخل حدود دولة ما فحسب. «الدولة» ليست تجمع السلطات الحاكمة بالقوة أو العصبية. «المواطن» ليس الفرد المسحوق أمام عنف السلطة، على ما اعتدنا في البلدان العربية.

إرتبط ظهور وتطور هذه المفاهيم بحضارة محددة وبفترة تاريخية دقيقة، هما الحضارة الأوروبية وعصر الأنوار، أي المرحلة التي شهدت تأسيس «الدولة» و»المجتمع» وظهور «المواطن» بالمعاني التي نعرفها اليوم. والحال ان بوناً شاسعاً يفصل بين آليات التطور التي عاشتها أوروبا في تلك الفترة وبين أشكال السلطة والاجتماع والسياسة التي سادت في الفترة عينها في المناطق العربية.

ربما يكون من المفيد العودة الى مرجعين يتناولان ما نعنيه. الاول هو «عجائب الآثار» للجبرتي حيث يستعرض المؤرخ المصري ردود فعل مواطنيه على محاولات الفرنسيين ادخال طرقهم في الادارة (من الفصول ذات الدلالة تلك المتعلقة بالتحقيق في اغتيال الجنرال كليبر ثم محاكمة سليمان الحلبي)، ووقوع هذه الطرق والأساليب موقعاً سلبياً عند المصريين. المرجع الثاني، هو كتاب عبدالله العروي «مجمل تاريخ المغرب» الذي يسرد في فصوله المتأخرة الكيفية التي حطم بها المستعمرون الفرنسيون القضاء الاسلامي، ليس بهدف إبعاد المغاربيين عن الاسلام – حيث يظهر الكتاب استمرار علاقة الفرنسيين الوطيدة مع الزعماء الدينيين التقليديين – ولكن لتسهيل استيلاء المستوطنين الفرنسيين على الارض.

بكلمات ثانية، دخل بعض تجليات القضاء الحديث في العالم العربي ضمن مهمة واضحة هي تكييف السكان ضمن مصالح السلطات الاستعمارية وكسر مقاومتهم لها. والحق ان هذه المهمة ظلت مستمرة بعد جلاء الاستعمار. وظل القضاء في الدول العربية راعياً لمصالح الأنظمة الحاكمة. ومما يدعو الى الانتباه هو عدم التجانس في المراجع القضائية العربية التي تتضارب مصادرها بين الشريعة الدينية والقانون الروماني القديم، ولكل منهما عالمه المفهومي الخاص.

ينطبق الامر ذاته على باقي القضايا. فنجد أن مؤسسات «الدولة» العربية قد نُسخت عن شبيهاتها الاوروبية والغربية من دون الاهتمام الكافي بالسياقات التاريخية المحلية. وصار الهم الوحيد للمؤسسات هذه ضمان بقاء السلطة ضمن أيدي الممسكين بها. فترة الانقلابات في الخمسينات والستينات من القرن الماضي ضاعفت تفريغ هذه المؤسسات الشحيحة المحتوى أصلاً، من محتواها وحولتها ادوات عنف وتسلط عارية لخدمة الانقلابيين والمستبدين.

هل ما نعيش اليوم «حداثة»؟ هي كذلك، بسبب نصاب المؤسسات والاجهزة الادارية والسياسية والتربوية الخ… لكنها حداثة مشروطة باجتماعها واقتصادها وثقافتها. عليه، هي حداثة مأزومة أزمة مضاعفة: الازمة الاصلية التي تعيشها الحداثة في موطنها الاوروبي والغربي، وأزمة محلية تتعلق بالصراع المرير الدائر اليوم حول كل شيء في بلادنا العربية. كل شيء بما فيه التعريفات البسيطة لـ «لمواطن» و»الدولة» و»الحرية» و»الشعب».