ليس خارج المألوف في أي بلد ان تفصل مسافة ما بين الخطاب السياسي والسلوك السياسي. لكن من النادر ان يكتمل الانفصال بينهما كما هي الحال في لبنان. فالتناقض عميق جداً كأننا في بلدين: واحد افتراضي وآخر واقعي. والمفارقة بالغة التعبير كأن المختلفين على كل شيء متواطئون ضمناً على توظيف اللعبة المكشوفة في خدمة المعادلة التقليدية التي عنوانها منذ الاستقلال سوء التفاهم المتفق عليه.
ذلك ان الخطاب السياسي للجميع تقريباً هو مباراة في توصيف الأخطار التي تضرب لبنان والأخطار التي تهدده، وفي التحذير منها وضرورة العمل لمواجهتها حيث يجب ولتجنبها حيث يمكن. من الخطر الاسرائيلي الى خطر الارهاب التكفيري الذي أحدث رموزه داعش والنصرة. ومن مخاطر حرب سوريا على مصيرها الذي يرتبط به مصير لبنان الى مخاطر التأثر بالحرب في العراق والحرب في اليمن. من خطر ما نعرفه في صراع المحاور الاقليمية الى خطر ما لا نعرفه في الاتفاقات الاقليمية والدولية. ومن خطر الأزمات الاقتصادية والمالية والاجتماعية الى خطر الفتنة الطائفية والمذهبية التي تضرب المنطقة ويعمل لها بعض الذين يحذرون منها أو حتى ينكرونها. والعنوان العام لكل هذه المخاطر هو الخروج على حدود سايكس – بيكو الى التصغير عبر تفكيك حدود الدول واقامة خطوط داخل الدول والاندفاع نحو التفتيت قبل الوصول الى التقسيم الواقعي ثم الرسمي.
لكن السلوك السياسي للجميع تقريباً هو سلوك تركيبة سياسية مطمئنة الى ان الاخطار بعيدة ان لم تكن نظرية. مطمئنة الى أن المظلة الدولية المرفوعة فوق لبنان، من اجل حسابات مختلفة، سترد عنه كل الاخطار. مطمئنة الى ان التطورات الدراماتيكية في المنطقة مفيدة، بحيث يتصور كل طرف ان هذا الاتجاه أو ذاك للتطورات يخدم موقعه وموقفه في اللعبة المحلية. مطمئنة، من باب الأوهام، الى ان اليوم التالي بعد الثلاثين من حزيران الموعد المحدد للاتفاق النهائي على الملف النووي بين ايران ومجموعة ٥١ سيشهد تفكيك العقد الصعبة في لبنان. وشديدة الاطمئنان بحيث تشعر انها قادرة على خوض حروبها الصغيرة، بصرف النظر عن الحرب الكبيرة من حولنا.
وأبسط ما يفسر التناقض بين خطاب الخطر وسلوك الاطمئنان هو التكيف مع الشغور الرئاسي، وتعطيل المجلس النيابي الذي مدد لنفسه بحجة المخاطر الامنية التي تمنع اجراء انتخابات، ثم تعطيل مجلس الوزراء. فلو كان خطاب المخاطر هو ما يعكس المواقف لسارعنا الى ملء الشغور وتفعيل المجلس النيابي ومجلس الوزراء. اذ لا أحد يواجه المخاطر بجمهور محتقن طائفياً ومذهبياً وجمهورية مقطوعة الرأس ومعطلة العمل التشريعي والتنفيذي.
والاخطار حقيقية وداهمة. ومن حسن الحظ أن الجيش يعمل.