خدمة البريد إلى المزايدة مجدّداً بعد احتكار دام نحو 22 سنة في قبضة «ليبان بوست». فالتلزيم يُعرض اليوم مجدداً لمدّة 9 سنوات، رغم أن التجربة السابقة لم تدرّ أي إيرادات للخزينة، بل كانت خزينة الدولة في خدمة الشركة المشغّلة
قبل 22 عاماً مُنحت شركة «ليبان بوست» امتيازاً احتكارياً لتقديم خدمة البريد في لبنان. انتهت مدّة «الامتياز» على مضض بعد 8 تمديدات متواصلة، وتبين بنتيجتها أن الدولة حققت إيرادات بائسة قيمتها 1.5 مليار ليرة، ولم يسمح لها بتجهيز إدارة رسمية للقطاع. بهذه الخلفية، أُطلقت أخيراً مزايدة تلزيم الخدمة البريدية بشروط تمتدّ لنحو 9 سنوات.
يقول تقرير لديوان المحاسبة صدر بتاريخ 8/6/2021، إنه بين عام 1999 لغاية 2019، أي خلال 20 عاماً، حصلت الدولة على إيرادات من شركة «ليبان بوست» بقيمة 1.5 مليار ليرة، مقارنة مع 7.8 مليار ليرة، أو ما يعادل 5.5 مليون دولار، إيرادات للخزينة عام 1997 وحده، حين كانت الدولة تدير هذا القطاع. في فترة خصخصة الخدمة البريدية التي امتدّت لنحو 22 عاماً من ضمنها ثمانية تمديدات متواصلة كان آخرها لغاية أيار 2023، كانت الدولة دائماً في خدمة الشركة المشغّلة. إذ كان المالك الأكبر للشركة هو الرئيس الحالي للحكومة نجيب ميقاتي، وهو لم يتخلَّ عن هذا الاستثمار إلا قبل بضع سنوات حين بادل حصّته في الشركة بأسهم في مجموعة «سرادار».
وبدلاً من أن تقوم الدولة بتجهيز نفسها لاستعادة القطاع وإدارته، تطلق مزايدة لخصخصته مجدداً. فقد أعدّت مديرية البريد في وزارة الاتصالات دفتر شروط تقول إنه يراعي، نسبياً، كل ملاحظات ديوان المحاسبة وملاحظات هيئة الشراء العام، بما يؤدي إلى تحسين في الشروط المالية لمصلحة الخزينة، إلا أن شروط الحصرية في تقديم بعض الخدمات البريدية ما زالت واردة فيه. دفتر الشروط يرفع حصّة الدولة من الإيرادات الخاصة بخدمة البريد الداخلي من 5% إلى 10% من إيرادات كل الخدمات وذلك ضمن شطور تبدأ بـ5 ملايين دولار، فضلاً عن أنه يمنح الملتزم عقارات الدولة مقابل بدلات مادية أيضاً. لكن المشكلة التي تُطرح متصلة بسعر الصرف المعتمد من قبل الدولة، إذ إن المزايدة مسعّرة بالدولار، من دون أن يتضح أيضاً إذا كان تسعير الخدمات للعموم سيكون بالدولار أيضاً. وبحسب مسؤولين في القطاع، فإن استعادة القطاع ليست مطروحة بل أسقطتها الحكومات السابقة، وهي اليوم أجهضت بحجّة الانهيار الذي يمنع الدولة من منح موظفي الشركة رواتب عالية «راتب الحاجب عندهم يساوي راتب المدير العام لدينا».
رغم الإيجابية التي تحكم دفتر الشروط الجديد، إلا أن المشكلة الأساسية تكمن في تلزيم مرفق عام لمدة 9 سنوات من دون إخضاعه للمادة 89 من الدستور التي تشير إلى عدم جواز منح أي التزام أو امتياز لاستغلال مورد من موارد ثروة البلاد الطبيعية أو مصلحة ذات منفعة عامة أو أي احتكار إلا بموجب قانون وإلى زمن محدود، كما أن القانون يحدّد مدّة تلزيم المرفق العام بأربع سنوات لا أكثر. لذا، ثمة من يعتبر أن تلزيما مماثلا هو «امتياز». ويرتكز المدير العام للاستثمار السابق في وزارة الطاقة والمياه غسان بيضون، إلى المؤلفين الصادرين عن الرئيس جان باز (الوسيط في القانون الإداري 1971) والدكتور فوزت فرحات (القانون الإداري العام 2012) للإشارة إلى أن «خدمات البريد تعتبر مرفقاً عاماً بما أن تعريف المرفق العام هو أنه: كل نشاط ذو منفعة عامة ويديره شخص عام. بالتالي إشراك أشخاص القطاع الخاص بإدارة المرفق العام يُعدّ امتيازاً يُعهد بموجبه شخص عام، يسمى مانح الامتياز، إلى شخص خاص يسمى الملتزم، بمهمة إدارة مرفق عام واستغلاله خلال مدّة محدّدة وتحت مسؤوليته الكاملة مقابل الحصول على رسوم يتقاضاها من المستثمرين». بمعنى أوضح، فإنه عدا عن أن الامتياز يجب أن يكون بموجب قانون، إلا أنه يجب أن يكون مجدياً للدولة. لكن في حالة «ليبان بوست» فإنها حصلت على المرافق العامة لاستعمالها مجاناً وتوسّع نطاق استثمارها نحو حصرية القيام بخدمات غير بريدية، كإرسال التصاريح الضريبية إلى وزارة المال، رسوم الأملاك المبنية، استيفاء فواتير الهاتف الثابت والخلوي، رسوم الباركميتر، الأموال العائدة للمصارف والشركات والمؤسسات، وصولاً إلى الاستحصال على سجلّ عدلي رغم أن الأمر يعدّ مخالفة للقانون بما أنه يتوجّب على الشخص المعني الاستحصال عليه مباشرة من الإدارة المختصة (علماً بأن الدولة لم تتقاض لقاء هذه الامتيازات سوى حصّة متواضعة تكاد لا تذكر). كما تشمل الحصرية التي نالتها «ليبان بوست» تقديم الخدمات البريدية ضمن النطاق المحلي والدولي لجميع المواطنين والشركات والمؤسسات في الجمهورية اللبنانية. أما أي خدمة تصدر عن أي وزارة أو مؤسسة عامة فيتوجب تنفيذها من قبل المشغّل حصرياً بموجب قرار حكومي مُلزم لهذه الإدارات.
الأخطر من ذلك، وفقاً لبيضون، هو القفز فوق ما يسمى باتفاقيات التبادل البريدي التي تنظم تبادل البريد بين لبنان والدول الأخرى، بحيث يعتبر البريد الخارج من لبنان إلى الدولة المعنية مجانيا، والحساب يرتكز فقط على الكلفة ضمن الأراضي لإيصال البريد. بمعنى أن لبنان والدول الأخرى يجرون جردة أو مقاصة دورية بالفروقات في رسوم إيصال البريد داخل الأراضي. لكن ما يحصل فعلاً هو إخراج البريد عن طريق التهريب من دون تسجيله في لبنان، ما يرتب على الدولة خسائر خصوصاً أن الدولة المتلقية تسجله ككمية إضافية. لذلك السؤال المطروح هنا يتعلق بمدى الرقابة التي يمكن أن تقوم بها هيئة الشراء العام في ظل كل هذا الفساد. سابقاً كان رسم نقل وتوصيل بريد الإدارات الرسمية مجانياً، إلى أن بدأت «ليبان بوست» باستيفاء رسوم عليه (عمّم ميقاتي هذا القرار على كل الإدارات) من دون أن يخصّص لهذه الرسوم أي اعتمادات في الموازنة. وهو ما أدّى إلى عدم دفع الدولة للشركة ردت عليه الشركة بعدم دفع الإيرادات للدولة. هكذا، حرصت الدولة على ضمان أرباح «ليبان بوست» ومنحها امتيازات إضافية مع كل تعديل وتمديد للعقد، فانتهى الأمر بأن جيّرت الدولة أرباح قطاع سبق له أن أمّن وفراً لخزينتها، لمصلحة شركة خاصة يديرها رجال أعمال وسياسيون ومصرفيون.
هل يحقّ لـ«ليبان بوست» المشاركة في مزايدة البريد؟
في الفترة الأخيرة استنفر بعض أزلام الدولة لضمان مشاركة شركة «ليبان بوست» في المزايدة المعروضة لتلزيم خدمات البريد رغم أنه لا يحقّ للشركة المشاركة بسبب وجود دعاوى قضائية بينها وبين الدولة. فمالكو الشركة رفعوا دعوى أمام مجلس شورى الدولة مطالبين بمستحقات زعموا أنها متوجبة على الدولة. ديوان المحاسبة أكّد وجود خطأ محاسبي (متعمد؟) في المقاصّة التي أجرتها وزارة الاتصالات مع الشركة، إذ أشار الديوان إلى أن حصّة «ليبان بوست» هي 1.5 مليار ليرة، بدلاً من 3 مليارات كانت تطالب بها الشركة. رغم ذلك، هرعت الشركة إلى التنازل عن الدعوى والموافقة على النتيجة التي توصل إليها الديوان. هنا تكمن المشكلة في أن هيئة القضايا في وزارة العدل أصرّت على متابعة الدعوى للوصول إلى حكم يدين الشركة التي يفترض أن تسدّد مستحقات للدولة لا العكس، بحسب ما قالت رئيسة الهيئة هيلانة إسكندر لـ«الأخبار». وتابعت أن مجلس الوزراء لا يحقّ له إعطاء أي براءة ذمّة ما لم تصادق الهيئة العليا أو مدير عام وزارة العدل على قبول المصالحة. وفي حال حصول تضارب بالآراء تحول القضية إلى هيئة استشارية. في كل الأحوال لا قدرة لـ«ليبان بوست» على التنازل من دون موافقتنا». وهنا ثمة رأيان، يرى الأول أن معايير التقييم الواردة في دفتر الشروط تأتي على ذكر الدعاوى وبراءة الذمة ضمن «وثائق المزايدة العائدة لأعمال تشغيل القطاع البريدي في لبنان وتذكر التفاصيل المتعلقة بها لاحقاً. ما يعني أن شركة «ليبان بوست» لا تستوفي هذه الشروط. في حين يقول رأي آخر أن طالما لا يوجد حكم على الشركة يمكن لها التقدم للمزايدة. الإجابة لن تكون ممكنة سوى بتاريخ 24 كانون الثاني 2023 لحظة فضّ العروض.