Site icon IMLebanon

خسارة المدخرات والتغطية الصحيّة: نقابات المهن الحرّة إلى الإفلاس

 

على قدمٍ وساق، تتسابق نقابات المهن الحرة في القضاء على مدخراتها. المدخرات التي قضت عمراً كاملاً في مراكمتها تخسرها اليوم من دون مقابل، ومن دون حتّى السعي إلى مجابهة النظام وإعلان الحرب على المصارف

 

أفضى تواطؤ النظام الاقتصادي، بعد اتفاق الطائف، إلى تقويض الحركة النقابية التي صارت أشبه بمجموعات مقوْننة على شاكلة نقابات إلزامية، «ساكَنَت» النظام وصارت طيّعة بين يديه، ولم تعد لديها قدرة على رفع سقفها في وجهه لمجابهته. تداعيات هذه العلاقة ظهرت بوضوح بعد الانهيار. فالأموال التي جمعتها النقابات على مدى 50 عاماً ذهبت سدىً. لا النقابات توجّهت نحو المُطالبة بجزء من كتلتها النقديّة التي تفوق ملياري دولار محتجزة في المصارف، ولا تجرأت على خوْض المعركة في وجه النظام. فوقفت إلى جانبه وأذعنت لضيق الخيارات التي قدّمها من دون أن تتمكّن من تسيير أعمالها إلا بعد أن بدأت بـ«أكل نفسها» حرفياً.

 

المسؤولية التي يتحمّلها النقباء السابقون ليست في تبديد ثروات النقابات ولا في تحويل أنفسهم إلى «ندّابة» على ما آلت إليه الأمور، وإنّما إلى مشتركين فعليين في عمليّة إفلاس الصناديق، ولا سيما أن مجموعة من النقابيين المنضوين في إطار حركة «مواطنون ومواطنات في دولة» قاموا بجولةٍ تحذيريّة على النقباء بين عامي 2017 و2018، أي قبل انهيار النظام الاقتصادي، للتحذير من أن الأزمة آتية، وحاملين خطّة عمل تتضمن مجموعة خيارات: تحويل مدخّرات الصناديق إلى حسابات مصرفية خارج لبنان، استثمارها خارج لبنان، سحب الأموال نقداً وإيداعها في خزنات خاصة، شراء الذهب… كل الخيارات ستكون جيدة باستثناء الاتكال على العقارات.

 

بعض النقباء كاد أن يستهزئ بهذه التحذيرات. بعضهم الآخر اقتنع إلا أنّه أصرّ على أنّ الانهيار ليس قريباً. في المُحصلة، جميع النقباء بمن فيهم نقيب المهندسين في حينه جاد ثابت (كان مدعوماً من قبل «مواطنون ومواطنات في دولة» واتفق معها على خطّة عمل واضحة قبيل ترشيحه) صمّوا آذانهم ولم يتجرأوا على السيْر نحو المربّع الأسلم؛ الخوف كان من صوت النقابيين الآخرين الذين فضّلوا الفوائد التي كانت تُحصّل من المدخّرات بدلاً من المخاطرة بها من دون تبريرات مُقنعة، أو هكذا ظنّوا.

 

سياسة النعامة

إدارة الظهر للتحذير من الأزمة لم تتبعه خريطة طريق واضحة بعد الأزمة، حتى من أولئك النقباء الذين وصلوا على ظهر حركة 17 تشرين. بل على العكس تصرّف هؤلاء كأنّهم امتداد طبيعي للممارسات الخاطئة التي قام بها أسلافهم. تماماً كما فعل، مثلاً، نقيب المحامين السابق ملحم خلف، ونقيب المهندسين الحالي عارف ياسين. الأخير يحفظ عن ظهر قلب النظريات الماركسيّة – اللينينيّة وهو على رأس نقابة هي الأكبر لجهة عدد المنتسبين إليها (أكثر من 60 ألف مهندس) وتملك أكبر كتلة نقديّة محتجزة في المصارف (نحو مليار دولار)، إلا أن قراراته في التعامل مع الأزمة تعبّر عن «تأقلم» مع النظام. فالرهان كان على أن ياسين سيرفع الصوت ويجرّ النقابات الأُخرى إلى مواجهة حقيقيّة مع المصارف. لكن ابن الحزب الشيوعي اللبناني سابقاً، اكتفى بطرق أبواب قصر العدل بهدف مقاضاة مدير فرع «فرنسبنك» على أن يُجابه جمعية المصارف.

 

وياسين ليس وحيداً في خفض سقف المواجهة إلى حدّ العدم، بل إن سياسة الخضوع تتمدّد إلى كل النقابات. صحيح أن بعض النقباء أظهر حماسة لفكرة مقاضاة المصارف، لكن بينهم من ارتضى أيضاً باحتجاز مدخرات النقابة على قاعدة «يا رب السترة» باحثاً عن قشور تعوّض الخسائر كرفع رسوم رخص البناء، رفع تعرفة المعاينة الطبية، رفع جعالة الدواء، رفع قيمة الوكالة القانونية…

هذا الخُضوع لا يعني فقط أن الحركة النقابيّة اندثرت، ولا يقتصر على أنّ النخبّة المعوّل عليها لمواجهة المصارف تختبئ، ولا أنّ النقابات الأكثر تأثيراً (كنقابات المحامين والمهندسين والمعلمين والأطباء وغيرها) كان يُمكنها اجتراح الحلول في توزيع الخسائر بشكلٍ عادل، بل يعني فعلياً إفلاس صناديق نقابات المهن الحرّة، وخسارة المدّخرات التي هي أشبه بـ«جنى العمر» بالنّسبة لهم.

 

بطولات وهميّة

ما يفعله النقباء الحاليون هو تمديد عمر الأزمة بأكبر كلفة ممكنة. السبب واضح. الجميع يريد أنّ تظهر النتائج في غير عهده، ولو أنّهم متيقنون من أنّ الكارثة واقعة. هذا ما يُقال إنه فعله، مثلاً، ملحم خلف حين قام بعمليّة قطع حساب لنقابة المحامين تضمنت احتساب الدولار على سعر صرف يبلغ 1500 ليرة بعيداً من الواقع. وهذا ما أدّى إلى خسائر بالآلاف مُنيَ بها الصندوق. فيما يؤكّد خلف لـ«الأخبار» عكس ذلك، موضحاً أنّ عمليّة قطع الحساب شقان: شق يتعلّق بالموازنة أي احتساب المدخول والمصروف عبر قيمته الحقيقيّة ولا جدل حوله وهذا أيضاً ما ينطبق على تقييم الموجودات الثابتة، وشق يتعلّق بتقييم أموال النقابة في المصارف وهذا ما حصل فيه التباس، إذ إن مجلس النقابة نفّذ حرفياً نصيحة المدقق المالي الذي طلب تقييم هذه الأموال على الـ1500 كي تكون بقيمتها الحقيقية وليس الوهمية، مضيفاً: «هذا الأمر كان بموافقة مجلس النقابة وأمين السر وأمين الصندوق قبل أن تُصادق عليه الجمعية العمومية في حينه»، معتبراً أنّ «احتساب الأموال عبر أي قيمة أُخرى هو غير علمي».

 

وبغض النظر عن رأي خلف، فإنّ الخطوة نفسها تكررت في نقابة المهندسين من خلال قطع حساب مماثل عن عام 2021 (نصف ولاية لثابت، ونصف ولاية لياسين). كل ذلك، يُفضي إلى تسجيل أرباح وهميّة في الصندوق، فيما الحقيقة أنّها خسائر فادحة.

 

بعض النقابات أجرت قطع حساب لصناديقها باحتساب الدولار 1500 ليرة

 

 

الخسارة الكُبرى تبدو في التغطية الاستشفائيّة. إذ إن كل نقيب حالي يصوّر نفسه «بطلاً» أمام المنتسبين، زاعماً أنه حقّق نجاحاً في تأمين التغطية الاستشفائية بأرقامٍ واقعيّة. لكن التدقيق يظهر بأنّ ما تحقق سيفضي حتماً إلى إشهار إفلاس صناديق التقديمات الاجتماعيّة. فعلى سبيل المثال، تعدّ نقابة المهندسين الأغنى بين النقابات، لكن مجلس النقابة في بداية هذا العام احتسب كلفة التغطية الاستشفائية متوقعاً عجزاً بقيمة 10 ملايين دولار، قبل أن يعدّل توقعاته لاحقاً إلى ما بين 6 و7 ملايين دولار، وفي كل الأحوال جرى اتفاق «شفهي» مع المستشفيات لتسديد العجز إذا بلغ 10 ملايين دولار، بشيكات مصرفية بالدولار قيمتها 42 مليون دولار. هذه المعركة ما زالت مؤجلة حتى ظهور قيمة العجز الفعلي. ففي نهاية السنة، هناك تقديرات بأن المستشفيات لن توافق على هذه القيمة. والأزمة نفسها ستتكرّر في السنة التالية (تبدأ السنة المالية في النقابة في آذار). إذ يتوقع أن تكون كلفة التغطية قد ازدادت ما يستنزف مدخرات النقابة بشكل أسرع وأكبر على افتراض أنها ستواصل تقديم المستوى نفسه من التغطية الصحية وعلى افتراض أن سعر تسييل شيكات الدولار ما زالت عند مستواها الحالي الذي لا يقلّ اليوم عن 6 أضعاف (كل 100 دولار شيك تساوي 1 دولار نقداً). وهذا يعني حتماً، أن نقابة المهندسين ومعها غالبية النقابات الأُخرى ذاهبة نحو إشهار إفلاس صناديقها خلال السنوات القليلة المقبلة. بعض التوقعات تشير إلى أن الإفلاس لن يستغرق أكثر من 5 سنوات إذا استمرت الحال على ما هي عليه، خصوصاً مع انخفاض ملحوظ لأعداد المنتسبين بسبب الهجرة أو التوقف عن تسديد الاشتراكات بسبب الأوضاع المالية أو عدم الانتفاع من التقديمات الاجتماعية للنقابة.

 

حلول «الحركة»

في المقابل، طرح نقابيو «مواطنون ومواطنات في دولة» صيغةً للحل مع بدء الأزمة رفض النقباء السير بها. يقضي الطرح بأن تحتسب كلّ نقابة نفقاتها التشغيلية الدائمة، والنفقات الطويلة الأمد (كصندوق التعاقد على سبيل المثال)، على أن تضغط النقابات على المصارف لتحرير ما يوازي قيمة نفقاتها التشغيليّة، بالدولار الفريش، أي أن يُحسم من حسابها دولار واحد عن كل دولار نقدي. هذا الحل قد يبدو أقل كلفة من قيمة الخسائر المترتّبة على تغطية العجز بالشيكات المصرفيّة، إلا أن خطّة «مواطنون ومواطنات أبعد من ذلك، مع توقّع رفض المصارف لهذا الحل» يقول المهندس من الحركة أحمد العاصي. يشرح أنّ تحرّك النقابات وفق الخطّة يهدف إلى تشجيع صندوق الضمان الاجتماعي على الانخراط في المعركة ومطالبة المصارف بتحرير أمواله نقداً لتغطية النفقات الاستشفائية لنحو ثلثي اللبنانيين، والانتقال إلى تغطية صحيّة شاملة للمواطنين. برأي العاصي «هذا الأمر يعني ترسيخ حقّ اللبنانيين في التغطية الصحية، ما يضغط على الدولة لتأمين تمويلها عبر سياسة ضريبيّة عادلة، وبالتالي تغيير وجه النّظام الاقتصادي».

نقابات أسيرة الدور

كسر النظام الاقتصادي المعمول به بعد اتفاق الطائف «شوكة» النقابات التي لم تتمكّن من أن تكون حركة نقابيّة فعليّة على غرار الحركات العالميّة، بل حوّلها في الكثير من الأحيان إلى مطيّة لأهدافه. سبب ذلك أنّ النّظام جمع في وعائه، العُمّال على تناقضات أعمالهم ومواقعهم الوظيفية والفوارق الاجتماعية بينهم، ما حال دون قيام النقابات بدورها في الدفاع عن حقوق القوى العمالية المسحوقة. إضافة إلى أنّ تشكيل النقابات جاء بموجب قوانين أجبرت من يريد الدخول إلى سوق العمل، على الانتساب إليها عبر دفع الاشتراكات الإلزاميّة. كما رصدت الدولة رسوماً ماليّة خصّصتها لتغذية صناديق هذه النقابات (نسب أرباح من استيراد الأدوية، رسوم على رخص البناء وعلى الدعاوى القضائيّة…). لذا، صار المشترع ينتظر من هذه النقابات أن تقوم بدورٍ ومساهمات مجتمعيّة عامة انطلاقاً من أنّه يُسهم في تراكم مدخراتها، وصارت هذه النقابات أسيرة هذا الدور.

 

من ملف : نقابات المهن الحرّة إلى الإفلاس