IMLebanon

هذه آليّة وشروط تحرير سعر صرف الليرة… فهل تتبعها الحكومة أو يكون الإنتقال عشوائيا؟

 

شهد جدول أعمال جلسة مجلس الوزراء بتاريخ 4 كانون الأول 2024، إدراج مشروع قانون تعديل قانون النقد والتسليف، وإنشاء مصرف لبنان. هذا المشروع تمّ ترحيله إلى جلسة أخرى ، بإنتظار مُعطيات أغلب الظن تتمحّور حول التطوّرات السياسية المحلّية والإقليمية. واللافت في هذا المشروع، هو ما ورد في المادة الأولى فيه والتي تنصّ على « …تحديد سعر الصرف القانوني لليرة اللبنانية وفق العرض والطلب في الأسواق، مع اقتراح حلول مرحلية يحدّدها وزير المالية بناءً على اقتراح مصرف لبنان…». هذا البند هو شرط من ثلاثة شروط أساسية وضعها صندوق النقد الدولي:

 

– أولًا: إنفتاح لبنان على التجارة والإستثمارات الدولية.

 

– ثانيًا: تحديد سعر صرف الفائدة (وإستطرادًا سعر صرف الليرة) وفقًا لآليات السوق.

 

– ثالثًا: خروج الحكومة من الإطار الإقتصادي (بمعنى آخر الخصخصة).

 

وما يعنيه تحرير سعر الصرف، أو ما يُعرف بـ «تعويم العملة»، هو منع أي شكل من أشكال التدخّل الحكومي أو من قبل المركزي، في سوق العرض والطلب الذي يجب أن يكون إنعكاسًا للنشاط الإقتصادي، وبنسبة أقلّ بكثير للمضاربة. إلا أن الإنتقال من سعر صرف عملة ثابت لنحو ثلاثة عقود، إلى سعر صرف حرّ يتطّلب خطوات جوهرية نظرا للتحدّيات الإقتصادية والمالية والإجتماعية التي تواجه لبنان.

 

من المتوافق عليه في علم الإقتصاد، أن العملة تعكس ثروة البلد. فإذا كانت ثروة البلد (النشاط الإقتصادي والثروات الطبيعية) كبيرة، كانت العملة قوية والعكس بالعكس. وقد أظهر الإقتصادي بول كروغمان في ورقة بحثية بتاريخ 1979 صعوبة الإبقاء على سعر صرف ثابت في ظل عجز في الميزان التجاري، وهو الحالة التي وقع فيها لبنان على مرّ ثلاثة عقود من تاريخه الحديث.

 

وإذا كان مُعظم الإقتصاديين يميلون إلى تحرير سعر صرف العملة الوطنية، لما لسعر صرف العملة من قدرة على تصحيح الخلل في العلاقة الثلاثية بين النشاط الإقتصادي، ومالية الدولة، والإطار النقدي، إلا أن هناك قسما آخر يرى في تحرير سعر الصرف مشكلة، بسبب الضعف الشديد في الآلية الاقتصادية، التي تحافظ على سعر الصرف قريبا من المستوى المتوافق مع الأساسيات الاقتصادية (جون ويليامسون 1999). وبالتالي، «فإن الأمر يتطلب قدراً إضافياً من الحذر ، قبل تقديم النصح لأي دولة تعاني من مشاكل إقتصادية بالتحول إلى نظام التعويم» (هذا الكلام الذي وجّهه ويليامسون إلى المؤسسات المالية الدولية).

شروط أساسية

 

ما تقدّم، يطرح بدون أي غموض عددا من الشروط الواجب تحقيقها، قبل الغوص في عملية تحرير لسعر صرف العملة، تحت طائلة دفع الشعب الثمن الغالي:

 

– أولًا الإستقرار الإقتصادي: إذ من المعروف أن إستقرار العملة المُحرّرة يتعلّق بتغيّرات النمو الإقتصادي بشكلٍ ميكانيكي. وبالتالي يتوجّب تأمين الإطار الملائم لنمو إقتصادي سليم ومُستدام، من خلال توجيه الإستثمارات بإتجاهٍ مُعين. إضافة إلى ذلك، يتوجّب محاربة التضخّم من خلال سياسة نقدية فعّالة، لتهدئة توقّعات التضخّم ، خصوصًا أن لبنان عانى ويُعاني من التضخّم، نتيجة تراجع العملة، ولكن أيضًا نتيجة التلاعب بالأسعار والتهريب…

 

– ثانياً الإستقرار المالي: أيضا ومن النقاط الجوهرية ضبط المالية العامة من خلال السيطرة على عجز الموازنة، وإعادة هيكلة الدين العام لاستعادة الثقة بالسوق والمستثمرين.

 

– ثالثاً : يواكب هذا الأمر تعزيز للإحتياطات الأجنبية في المصرف المركزي، لدعم مرحلة الإنتقال من سعر صرف ثابت إلى سعر صرف حرّ، إضافة إلى توحيد سعر الصرف في كل الإقتصاد ، بما في ذلك سعر صرف السحوبات المصرفية، وذلك تجنّباً للفوضى التي قد تنتج عن عملية الإنتقال إلى سعر الصرف الحر ، والتي عادة ما يُرافقها ذعر ومضاربة تلعب دورا أساسيا في إفشال الإنتقال.

الإجراءات للتعويم

 

فيما يلي خطّة طريق واضحة المعالم ، يُمكن إتباعها أو الإستيحاء منها لتعويم سعر الصرف:

 

– أولاً: وضع آليات قائمة على العرض والطلب، وبالتحديد يجب أن يعمد مصرف لبنان إلى القيام بعملية مزادات للدولار الأميركي تدريجيا، مما يسمح بإستحصال القطاع الخاص على العملة الصعبة، بأسعار يُحدّدها العرض والطلب الإقتصادي. وهذا الأمر يتناقض ومبدأ الإنتقال الفوري إلى منصة «بلومبرغ» التي من المزمع وضعها في السوق مباشرة، مما يعني أن الإنتقال إلى نظام تعويم مُوجّه، هو ضرورة قبل الإنتقال إلى سعر صرف حرّ بالكامل، وهو ما يُعطي المصرف المركزي إمكانية التدخّل – بواسطة آليات السوق – لضبط التقلّبات العنيفة. أيضا يتوجب إعادة تطوير السوق بين المصارف (interbank) ، من خلال تشجّيع إعادة إحياء هذا السوق وتحديد السعر فيه، على أساس شفاف للعرض والطلب. هذه الآليات ستسمح بأن ينسحب المصرف المركزي تدريجيًا تاركًا للسوق الحريّة في تحديد سعر الصرف.

 

– ثانياً : تعزيز ثقة اللاعبين الإقتصاديين بالعملة الوطنية من خلال إختيار سياسة نقدية مُتطورة عمادها محاربة التضخّم، وذلك بهدف إرساء الثقة وإستقرار سعر صرف العملة. الجدير ذكره أنه هناك ثلاثة سياسات مُمكن للمركزي أن يتبعها، وهي اللعب على التوازن بين الكتل النقدية (هدف الكتل النقدية)، وهذا ما يفعله المركزي اليوم، تثبيت سعر الصرف ضمن هامش ضئيل والتدخل بحسب الحاجة (هدف السعر)، وهذا ما كان يفعله المركزي قبل الأزمة، والأخير هو هدف التضخّم، حيث يتم القيام بالإجراءات اللازمة للمحافظة على هدف تضخّم يتم وضعه مُسبقا.

 

إلا أن هذه السياسة الأخيرة تتطلّب الكثير من التقنيات الماكرو إقتصادية والنماذج النقدية، لتكون التوقّعات مواكبة للحقيقة على الأرض. ومن خلال هذه السياسة (أي هدف التضخّم) يتوجّب على المصرف المركزي أن يُعلن مُسبقا عن سياسته للرأي العام، تجنّبا للمضاربة وإنعدام الثقة. فالصدقية في الأسواق تعني: إعلان النوايا وتنفيذها، والتذكير بما قيل وبما تمّ فعله.

 

– ثالثًا : مُعالجة المشاكل الهيكلية، وعلى رأسها إعادة هيكلة القطاع المصرفي وحلّ مُشكلة الودائع، ومُعالجة أزمة الدين العام، وتحفيز المناخ الإستثماري، والتي تُعتبر شرطا أساسيا لتحرير سعر الصرف تحت طائلة تحوّل سعر صرف الليرة إلى كارثة على المواطن اللبناني.

تحدّيات كبيرة

 

تحمل عملية تحرير سعر صرف الليرة اللبنانية، تحدّيات كبيرة لا يُمكن حلّها بتعديل في قانون من هنا أو إجتماع من هناك. فالأزمة الإقتصادية الحالية تركت الكثير من العقبات أمام مثل هذا التحرير ، وعلى رأسها التضخّم المستورد، والضغط الإجتماعي ، والتقلّبات في سعر الصرف التي أدّت بدون أدنى شكّ إلى إعتماد الدولرة، والتي سيكون صعبا التخلّص منها في المدى القريب. أضف إلى ذلك عمليات التهريب والمضاربة والتهرّب الضريبي والفساد والتفلت الأمني، وغيرها من الأمور التي لم يعد كافيا أخذ القرار فيها بل يجب تنفيذه.

 

هذه العملية يجب أن يواكبها شبكة آمان إجتماعي للفئات المُهمّشة في المجتمع، التي ستُعاني في المرحلة المُقبلة، كما وتعزيز الصادرات وفرض إعادة أموال الصادرات إلى المصارف اللبنانية، ووضع قانون مؤقت للكابيتال كونترول ،يمنع خروج رؤوس الأموال بطريقة تؤذي الليرة اللبنانية والإقتصاد على حدٍ سواء، مع الأخذ بعين الإعتبار خصوصيات كل فئة إقتصادية وإجتماعية.

مواكبة دولية

 

لا يُمكن للبنان القيام بهذه العملية وحيدا بسبب النقص بالموارد المالية، ولكن أيضا بسبب ضعف مؤسسات الدولة، نتيجة عقود من الفساد وغياب المحاسبة. لذا من الضروري الحصول على دعم من قبل المُجتمع الدولي، وعلى رأسه صندوق النقد الدولي والدول الخليجية ضمن إطار إصلاحي حقيقي، لا يكون على شاكلة ما حصل سابقا ، بل يكون ترجمة فعلية لقرار فعّلي وإرادة حقيقية بالخروج من الأزمة.

 

في الختام، إن تحرير سعر صرف الليرة اللبنانية أصبح أمرا محسوما (بإنتظار تنفيذه). وبالتالي المطلوب من الحكومة إدارة مرحلة الإنتقال، من سعر صرف ثابت إلى سعر صرف حرّ ، بأقلّ الأضرار المُمكنة على المواطن بطريقة علمية مدروسة، لا تكون على غرار التخلّف العشوائي عن دفع الدين العام. وما قدّمناه في هذا المقال يُشكّل قاعدة إنطلاق نأمل أن تستمدّ الحكومة منها بعض الأفكار.