IMLebanon

محور الإلهاء والإشغال

 

اعتبر الامين العام لـ»حزب الله» السيد حسن نصرالله، في إطلالاته الاعلامية الأخيرة وقد خصّصها لحرب غزّة المُستعرة، أنّ قواه العسكرية قد دخلت الحرب فعلياً، ولكن، بتكتيك «جبهة إشغال وإلهاء» للجيش الاسرائيلي، وبهدف تخفيف الضغط عن جبهة «حماس «في غزّة. وبالحقيقة، فقد أصاب السيد حسن كما لم يُصب سابقاً، عندما أعطى صفة الإلهاء لجبهته، فتكامل تماماً مع استراتيجية محوره، المُرتكزة على تكتيك «الإلهاء والإشغال» لكن، للقواعد.

إنّ الشعارات النضالية التي ردّدها السيد حسن ومسؤولو حزبه وقياديوه ومفكّروه الايديولوجيون، منذ نشأة الحزب، أخذت منحى ثابتاً، بتوصيف الحرب التي يخوضونها، بمثابة حرب مُقدّسة لأجل تحرير القدس، بما تحمل هذه المدينة من معانٍ دينية، وفلسطين، وبما يحمل هذا الوطن من رمزية عربية. اعتمد الخطاب الحزبلاّوي معايير دينية، لإضفاء شرعيةً لا تقبل النقاش، وحرميّةً وكفراً يُرمى على معارضيه، فالتكليف شرعي، فقهي وديني، والمعترض كافر وخائن. ولم يدخل في قاموس الحزب السياسي أي احتمال بالاعتراف بدولة اسرائيل، أو قبول بقواعد للتعامل معها، فالخطابات دعت بشكل دائم الى إزالتها من الوجود.

ولكن مع انفجار الحرب في غزّة، ودخول «حزب الله» المدروس والمدوزن في المعارك، بناءً على «قواعد الاشتباك» الموضوعة مع الجيش الاسرائيلي، ضربت صورة هذا الحزب، الرافض خطابياً للوجود الاسرائيلي، والقابل عملياً باحترام قواعد الاشتباك، وفي لحظةٍ، أكثر ما تحتاج اليه اسرائيل لقواعد اشتباك، تُخفّف من الهلع لدى مجتمعها، وقد بات يطرح فكرة الهجرة المُعاكسة، لفقدانه الثقة بأجهزته العسكرية والأمنية، عماد وجود دولة اسرائيل. التزم «حزب الله» بتلك القواعد، ففقَدَ شرعية النضال الشرعي الذي ظلّل نفسه بها، وتكشّف بأن قواعد المواجهة العنفوانية، التي نادى بها على مدى السنوات الماضية، تحمل الكثير من شعارات الالهاء، للقواعد طبعاً، وللأتباع، وللمُراهنين على سلاحه، لنيل المغانم من السلطة والتسلّط.

إنّ «تكتيك الالهاء» ليس الا خدعة تعتمدها الأنظمة الفاشلة، لتمديد أجَلِ سلطانها على الشعوب، ويُعتبر الشرط الأساسي الذي تحكم من خلاله الدول الديكتاتورية والقمعية والبوليسية، لأجل تثبيت زعمائها وأزلامها في السلطة. وهذا ما كان يحدث في زمن معسكر الاتحاد السوفياتي، حيث اعتُمد الكثير من شعارات الالهاء لتصفية المعارضين، وطُبّقت كمنهجية تعليم وتثقيف في المدارس والمعاهد. فتربّت أجيالٌ كثيرة عليها، بعملية غسل أدمغةٍ، أدّت الى انتاج اجيال مؤدلجة، ومضبوطة في مسارٍ إلهائي، أبعدها عن الحس الانساني الطبيعي نحو الحريّة، وأسكتها امام الظلم.

لم تنهَرْ هذه الأنظمة أمام عدوانٍ خارجي أو قوة سلام داهمتها للإفراج عن الشعوب المحكومة من قبلها، بل سقطت نتيجة فشلها في تأمين الاستمرارية لدولها، باعتماد سياسات الكذب والإلهاء، بعدما استنفدت كافة طاقات الشعوب والبلدان، التي تحكمها بالحديد والقتل والمعتقلات. وهذا ما بدأ يحصل مع محور ايران، بعدما تكشّفت أهداف شعاراتها الإلهائية، وتكتيكاتها المبنيّة على إشغال المُناضلين الصادقين، بالأهداف الوهمية، في الوقت الذي يقوم قادة النظام الايراني بمفاوضاتٍ متقدّمة لنيلهم حصصاً ونفوذاً اقليمياً على يد القوى الدوليّة، التي يُشهرون شعاراتهم ضدّها.

أثبت السيد حسن أنّ تكتيكاته، ليست الا إشغالاً وإلهاء، وليس للجيش الاسرائيلي، كما يدّعي، بل لاتباعه الذين يهدرون دماءهم لريّ القضايا الفاشلة والاهداف الايديولوجية، والنظام الانتهازيّ الذي يتحكّم بهم. وأثبت أنّ تكتيكاته الإلهائية لصفوفه وبيئته، فعلَت فعْلها بإلهاء بيئته عن العمل التقدّمي والتطوّري الطبيعي، الذي يجب أن تضطّلع به لتتحوّل مجتمعات منتجة، تحاسب قيادييها وتناضل لكرامتها. ولأنّ مفعول الإشغال والإلهاء بات ضعيفاً، بعد الانكشافات العديدة والمتتالية، وأفضحها حرب غزّة، فقد تحوّل خطاب السيّد الأخير محاولةٍ للدفاع عن تموضعه في «قواعد اشتباك» مع العدو.

لا شك بأنّ مفردات الإلهاء والإشغال غنيّةً وكثيرة جداً، ولكنها تبقى دائماً، بمقاصدها، إلهاء، لا تؤتي نتائج ايجابية للمجتمعات، بل مآسي وتخلّفاً عن المجتمعات الاخرى. أمّا الجدّية في المطالبة بالحقوق، فلها شروطها ومزاياها وخططها ومتابعاتها، وأوّلها، الابتعاد عن الغوغائية، والعمل على بناء مجتمعات بنّاءة وحرّة ورافضة للذمّية، والايديولوجية المنغلقة.

أكثر ما يُخيف أخصام المجتمعات العربية، ومستغلّيها في الوقت ذاته، تطوّر هذه المجتمعات وابتعادها عن مُخطّطات الإشغال، بشعاراتٍ لا طائل منها. ولم يُشغل الشعوب العربية عن حربها التنافسية الانتاجية والعلمية مع اسرائيل، أكثر من اخضاعها، لمحور المُمانعة، وافضل مثال على ذلك، كان لبنان.

(*) عضو تكتّل «الجمهورية القوية»