من الفوارق الأساسية بين تجربة الاحتلال في جنوب لبنان وواقع الاحتلال الصهيوني للضفّة هو أنّ أحداً لم يحاول اقناعنا، أثناء الحرب الطويلة ضد اسرائيل وعملائها، بأنّ «جيش لحد» هو جزءٌ من شعبنا، وأن ضرورات «الوحدة الوطنية» تمنع اراقة الدماء بين اللبنانيين، وأنّهم جنوبيّون مثلنا، علينا التحاور معهم وقتال العدوّ الخارجي من خلف ظهورهم ــ والّا لكنّا نتفاوض الى اليوم مع «سلطة لحد» وضبّاط الاحتلال.
حرب التحرير، في نهاية الأمر، كانت في جزءٍ أساسيّ منها قتالاً بين «لبنانيين»، وما سبّب هزيمة الاحتلال وسرّع انسحابه، أصلاً، كان انهيار درعه اللبناني (وفي الحالة الفلسطينية ايضاً، الوضع ليس ثابتاً ومستقرّاً؛ حين كانت «سلطة أوسلو» في بداياتها، كنتَ تُواجَه باحتجاجاتٍ لو قمت بتخوينها أو تكلّمت عن ضرورة تأسيس معادلة ردعٍ مع أجهزتها القمعيّة، بحجّة الخوف من «الانقسام» ومن أن يسيل الدم بين أبناء الشّعب الواحد. أمّا اليوم، فقد أصبح الموضوع نافلاً اذ إنّ «السّلطة» أضحت أكبر من أي قوّة أو تنظيم، ومؤسساتها منتشرة ومتجذّرة في المجتمع، وهي تقدر على قمعك ــ إن واجهتَها أو حاولتَ تغيير الأمور ــ بسهولةٍ، وبدعمٍ أو تواطؤ يوفّره قطاعٍ واسعٍ من النّاس).
من هنا، فإنّ في الأصوات اللبنانية التي خرجت تدافع عن عناصر «لحد»، قبل وبعد التحرير، «وجاهة» ما باعتبار أنّ هؤلاء المتعاملين، بسبب تورّطهم المستمرّ في المواجهة العسكرية الى جانب الاحتلال، قد تمّ «استثناؤهم» وإخراجهم من المجتمع الوطني وإعطاؤهم، وحدهم، مرتبة الخيانة والعمالة. المدافعون عن عملاء لحد يقدّمونهم كـ«ضحايا»، تراصّت الأمور ضدّهم فوجدوا أنفسهم، بسبب سوء الطّالع ومسار الأحداث لا نتيجة أفعالٍ ارتكبوها استثنائية في القبح، أمام المحاسبة واللوم دوناً عن غيرهم. هي حجّةٌ «وقحة»، ولكنّ لها منطقاً داخلياً: تاريخ لبنان الحديث هو تاريخٌ من الحرب الأهليّة، والخارج والمحتلّ لاعبٌ دائم. مفاهيم «الوطنية» و«العمالة»، في سياقٍ كهذا، تصلح لخطابات الرسميين والبيروقراطيين ولكن لا مكان لها على أرض الواقع (بل إنّ المجتمع المدني اللبناني، منذ عقودٍ طويلة، قد أنتج ثقافةً «بديلة» و«منيعة» ضد الشعارات الوطنية. يكتب يوسف سلامة مثلاً، في مذكراته عن الخمسينيات والستينيات، أنّه حين خرجت في بيروت اشاعة مفادها أنّ سلامة جاسوسٌ ويعمل مع المخابرات الأميركية، فوجئ الكاتب بأنّ النّاس حوله صارت تتقرّب اليه بشكلٍ واضح، وتعامله باحترامٍ ومهابة).
قام اللحديون بقصف قرىً ومدنٍ لبنانية، ولكن من قصف أكثر منهم ما زال في قلب النّظام السياسي ــ وهو يفخر بماضيه. تعاملوا مع الاحتلال ولكن في لبنان اليوم يجري تعظيم بشير الجميّل، مجدّداً، في الذاكرة الشعبية؛ ومن كان مسؤول تنسيقٍ مع الاسرائيليين أضحى نائباً محترماً. أكثر من ذلك، فإنّ الحرب الأهلية ــ بوساطة الخارج ــ لم تتوقّف حتى بعد النهاية «الرسمية» للحرب عام 1990، وتتمّ ممارستها بأشكالٍ متزايدة من العلنيّة: في تمّوز 2006، وفي مرحلة ما بعد حرب تمّوز و، أخيراً، طوال حرب سوريا منذ عام 2011. في هذه الحالات كلّها كانت نخبٌ لبنانيّة، وبدعم حاضنة شعبية معتبرة، تتآمر مع قوىً خارجية تقصف لبنان وتغزوه، أو ترسل السيارات المفخّخة الى مدنه وتتوعّد أهله ــ بوضوحٍ وبصخب ــ بالذبح والسَّبي (لسوء الحظّ، ربّما، أنّ الكثير من مناصري هذا التيّار ومنظّريه لم يسعفهم سنّهم لكي يعاصروا مرحلة «جيش لحد»، ويكتشفوا «الخصائص الديمقراطية» للتنظيم، وينظّروا بأنّ عملاءه هم فئة شعبية «تناضل» ضدّ هيمنة «حزب الله»).
عن «حرب المناورة»
يميّز انطونيو غرامشي بين صنفين من «الحروب الأهلية» التي تجري داخل المجتمع. في الأماكن التي تطوّر فيها جهاز الدّولة وتشعّب، وصنع مجتمعاً مدنيّاً عبر الهيمنة والتوافقات المفروضة من فوق، تجري تحت سقفها ممارسة «التشاركية» و«الديمقراطية»، فإنّ «الحرب» تأخذ صورة «حرب المواقع». في ميادين السياسة والثقافة اليومية والمؤسسات والانتخابات. هذا يشبه تكتيك الأحزاب اليمينية المتطرّفة في اوروبا اليوم: تستخدم البنية التشاركية لتشنّ حرباً ثقافية وسياسية مستمرّة ضدّ «المؤسسة»، وتكسب مواقع باستمرار في السياسة والاعلام والرأي العام، وتمهّد لضرب المجتمع المدني بصورته القائمة واستبداله بنموذجٍ مختلف تفرضه انت. أمّا في المناطق التي لم تتطوّر فيها دول متقدّمة وبرجوازية، ولم ترسخ فيها هيمنة، (كالأقاليم الشرقية، بحسب تعبير غرامشي في «دفاتر السّجن») فإنّ المواجهة تأخذ شكلاً مباشراً أكثر وعسكرياً أكثر، يكتب المفكّر الايطالي، هو نموذج «حرب المناورة» حيث للسلطة مركزٌ واضح، يمكنك أن تناور ضدّه، وأن تضربه، وأن تقتحمه أو تقلبه. هنا نجد أمثال «الثورات الملوّنة» (ضدّ حكومات سلطوية أم منتخبة)، والاستيلاء والانقلاب العسكري، وشيئاً يشبه مثال المنظّر «بلانكي» عن الثّورة تنفّذها مجموعة نخبويّة أقلّويّة، أو رأس «واعٍ» يتقدّم كتلة شعبية منتفضة بلا هدف، تستولي على الحكم بفضل تنظيمها وحنكتها وتفرض نظاماً جديداً «من فوق» (يوجد نقاشٌ وافٍ عن نقد الماركسيين لـ«البلانكية» في دراسة لدانييل ايغان بعنوان «التمرّد وحرب المواقع لدى غرامشي»، مجلّة «الاشتراكية والديمقراطية»، 2015 نقرأ فيها أن لينين قد انتقد، بشدّة، المثال البلانكي واعتبره غير مناسبٍ للسياق الروسي والاوروبي، غير أنّ هذا الشّكل من «الثورة» هو الذي طبع التاريخ العربي المعاصر). في بلادنا، حيث يُضاف عامل «الأجنبي» والاحتلال والغزو، فإنّ «حرب المناورة»، التي تستمرّ بلا توقّفٍ في أكثر من مجتمع مشرقيّ، تأخذ أبعاداً وامكانيّات مخيفة.
قسمة «الحرب الأهلية» لدى غرامشي، بالمناسبة، تتطابق مع قسمةٍ أخرى، لا تقلّ أهمّيّة، عن الفارق بين الديمقراطية والسلطويّة. كما يقول علي القادري، فإنّ الكثير من المثقّفين العرب يأخذون عن غرامشي أقلّ ما يُقارب سياقهم ومشاكلهم، ويهملون أهمّ الدّروس التي يمكن أن يقدّمها إليهم، كتفسيره للنظام الديمقراطي. الديمقراطيّة التشاركية عند غرامشي ليست «خياراً» سياسياً، كما تفترض مدرسة الدمقرطة، ولا هي تمثيلٌ لإرادة الشّعب، بل مجرّد نمطٍ مختلفٍ، متقدّمٍ، من السّلطة. في المجتمعات الصناعية التي «انتشرت» السّلطة فيها، وبنَت هيمنة وتوافقات، وأرسي الإجماع على كلّ القضايا الأساسية وحسمت الصراعات الداخلية التاريخية، يكون الحكم وتوليد السّلطة عبر النمط «الديمقراطي» الانتخابي؛ أمّا في نمط التغلّب حيث السّلطة «خارجيّة» على المجتمع، معزولةٌ عنه ولا تتحكّم بثقافته وعقليته ودينه ــ كما في الحالة الاقطاعية، مثلاً ــ فإنّ المنهج السلطويّ والجبري يكون هو نمط التحكّم السائد (ولو كانت هناك انتخابات).
في كلّ الحالات، يتّفق منظّرو «حرب المناورة» والاقتحام على شرط المهارة والإقدام والمسؤولية لمن يودّ دخول ميدان الصّراع في المجتمع، في وصايا كان من المفيد لو فهمها العديد من منظّرينا في السنوات الماضية. يكتب انجلز، مثلاً، «التمرّد هو فنٌّ تماما كالحرب له قواعده… أوّلاً، إيّاك أن تلعب لعبة التمرّد إن لم تكن مستعدّاً لتحمّل نتائج فعلك». ويذمّ لينين، في معرض نقده لـ«البلانكية»، الحركة الثوريّة التي «لا ينظّمها حزبٌ يمثّل طبقةً محدّدة، لم يقم منظّموها بتحليل اللحظة السياسية بشكلٍ عام والحالة الدولية بشكلٍ خاص، لا يمتلك الحزب فيها تعاطف أغلبية الشعب، وبشكلٍ تثبته الوقائع الموضوعيّة… لم يفز بتأييد أغلب الهيئات الثورية بشكلٍ عمليّ» إلخ (الاقتباسان من دراسة دانييل ايغان أعلاه).
خاتمة
في بلادٍ لم تهدأ فيها الصّراعات منذ الحرب العالمية الأولى، ولم تحسم فيها «الأسئلة الكبرى»، ولم يبنَ مفهومٌ واضحٌ ومتّفقٌ عليه عن الشرعيّة، من الطّبيعي أن يحصل المشهد الذي عمّ لبنان في الأسابيع الأخيرة، في معركةٍ من المفترض أن تكون «بسيطة» و«توافقية» مع حركاتٍ من طراز «القاعدة» و«داعش». التراشق والتضليل و«الحرب الإعلامية» ليست أموراً مستغربة، ومن أحزنته هزيمة «داعش» وأثارت حنقه من حقّه أن يحزن ويكترب. هو، من وجهة نظره، قد خسر فصلاً من فصول الحرب الأهلية المستمرّة، وهنا بالمعنى المباشر والعسكري، «حرب المناورة» (لا تهمّ هنا ايديولوجيا «النصرة» و«داعش»، أو ادّعاء الجزع على اللاجئين السوريين، في بداية المعركة، والتلحّف بحجة التعاطف معهم، ولا كلّ الحجج التي يمكن أن تُساق؛ الأمر الوحيد الذي يهمّ هو موقع هذه القوى في حربهم الداخلية الصغيرة).
من حقّهم أن يحزنوا لأنّنا في بلادٍ يجري الصراع فيها بحسب «حرب المناورة» لا «حرب المواقع». لو كانت المواجهة بيننا وبين ممثّلي المعسكر الغربي تجري بشروط الحرب الثقافية لخسرنا الصّراع وانتهت المسألة منذ زمنٍ بعيد. الاعلام معهم، الثقافة معهم، المال معهم، والنخبة معهم. ولديهم ــ مجتمعين ــ ما يجذب ويغري، لا الطّائفي المتحمّس فحسب، بل ايضاً «الوسطي» الذي يبحث عن الانتشار و«البرستيج»، و«العدمي» الذي اعتنق الانتهازية مذهباً، ومن يبحث ببساطة عن مصلحته المادية ويضعها أوّلاً، وهذه غالبية الطبقة الوسطى في أيّ مكان. في «حرب المواقع» من الصّعب أن تفوز منظومةٌ معادية للغرب وللخليج، بل هي تظلّ ــ حتى في لحظة الانتصار ــ في حالة دفاعٍ مستمرّ، فيما خصومها يحدّدون أجندة النقاش؛ والدّفاع في حالاتٍ كهذه ــ كما يقول لينين ــ ليس خياراً ولا يوصل الى مكان. بكلماتٍ أخرى، لو أنّ المواجهة بيننا تجري بهذه الشروط في بلجيكا، مثلاً، لكانت منظومة الهيمنة قد انتصرت منذ أمدٍ بعيد، وسنّت قوانين تجرّم المقاومة وتفرض مفهومها عن الوطن وتحظر جريدة «الأخبار»، وسيعيشون بعد ذلك في عالمٍ مريح ــ ولكنّنا، لسوء حظّهم، لسنا في بلجيكا.
فيما تستمرّ فصول الحرب الأهلية على أرضنا، نتذكّر أنّ «القضايا الأساسية» لم تُحسم بعد، وصولاً الى أبسط مبادىء «الوطنية»، وهذا واقعٌ لا تغطّيه الأغاني والأناشيد المدرسيّة، ولا أحد يصدّق خطاب الدّولة عن الوطن. حتّى نخرج من هذه الحال الى حالٍ جديد، هناك في المجتمع (كما المعسكر الغربي ــ الخليجي في لبنان) من يفهم طبيعة الصّراع القائم وحدّته، وهناك من لا يفهم. وحتّى ذلك الوقت، للأسف، لن يكون الرّهان على التكاذب وعقد المصالحات الوطنية، من جديد، مختلفاً عن رهان من يريد تحرير فلسطين وــ في الآن ذاته ــ «وحدة وطنية» مع حكومة رام الله.