حدث انه قبل عشرين عاماً، وضع “حزب الله” أوزار حربه مع إسرائيل وقرر ان يوم 25 أيار هو عيد التحرير. واستجاب لبنان مع الدعوة، فهو بحاجة إلى لحظة انتصار وطنية جامعة، متناسياً الثمن الباهظ الذي دفعه أبناء المقاومة المؤسسون باستبعادهم وخطف تضحياتهم وتجيير دمائهم.
اللبنانيون مشوا وراء احتفال “حزب الله”، لتوهمهم ان قرار الإحتفال بالتحرير يعني ضمناً إطلاق اليد الديبلوماسية لإستعادة مزارع شبعا، قبل أن تفضح سوريا نفسها لاحقاً بعرقلة الإعتراف بلبنانيتها لتبرير سلاح حليفها، وقرية الغجر، وانه آن الأوان لإنخراط “الحزب” في الحياة السياسية كرد جميل على تضحياته.. و “رد الجميل” له.
6 سنوات أسقطت معها كل الرهانات، ليسجل “حزب الله” المفاجأة الكبرى: عيد التحرير هو بمثابة استراحة المحارب للتخطيط لعمليات عسكرية طبعاً، وفرصة لإنشاء أكبر ترسانة أسلحة في الشرق الأوسط تحضيراً لحرب تموز وإعلان الأمين العام لـ”الحزب” السيد حسن نصرالله تحويل لبنان إلى “ساحة مفتوحة”، وصعود “أشرف الناس” لتخوين كل الناس، وإخراج إسرائيل من اللعبة، و”احتلال لبنان أمنياً وسياسياً، وإنطلاقة مناسبة لجولات من الحروب المتنقلة بحسب الأجندة الإيرانية، في سوريا المحطة الأساس، واليمن والعراق… والمفتوحة على كل العالم تحت شعار “نكون حيثما يجب ان نكون”.
إذاً، عشرون عاماً مرت على الفصل الأخير من تحرير الجنوب في ايار من العام 2000، فالشريط الحدودي الذي بقي تحت الاحتلال الاسرائيلي منذ العام 1978، كان منطلقاً لاجتياح اسرائيل في العام 1982، هذا الاجتياح الذي وصل الى بيروت ومناطق لبنانية عدة في جبل لبنان والبقاع.
لم يكن التحرير عملية منفصلة عن مشهد التحولات السياسية والايديولوجية الذي شهده لبنان منذ الخروج الشهير لمنظمة التحرير الفلسطينية من بيروت في العام 1982، ولاحقاً في العام 1983من مدينة طرابلس بقوة الجيش السوري وبعض المتعاونين معه من ميليشيات لبنانية.
الانسحاب الاسرائيلي من بيروت ومن ثم من الشوف وعاليه وبعض مناطق البقاع الأوسط والغربي تمّ بين العامين 1982و1984، ومن ثم الانسحاب الذي تمّ في العام 1985 وهو الانسحاب الأهم لجهة الانكفاء الاسرائيلي نحو الشريط الحدودي، مضافاً اليه قضاء جزين.
شكلت المقاومة اللبنانية للاحتلال، عنصراً محورياً في فرض الانسحاب الاسرائيلي، وكان من سمات هذه المقاومة التي فرضت التحرير، انها كانت ذات طابع شعبي وعسكري، وذات سمة متنوعة سياسياً، واجتماعياً، بحيث كان من الاستحالة ان تنسب المقاومة الى جهة سياسية محددة او اطار ايديولوجي او جهة طائفية محددة، برز في حينه عنوان المقاومة الوطنية اللبنانية، الذي كان مظلة فضفاضة لعشرات القوى الحزبية والمجموعات المستقلة، فيما كان صعود المقاومة الاسلامية التي يقودها “حزب الله” وترعاها ايران، مترافقاً مع بداية تحوّل ثقافي وايديولوجي يرى في قتال اسرائيل مشروعاً منفصلاً عن الانتماء الوطني اللبناني، ويأتي في سياق مشروع تحرير فلسطين وقيام الدولة الاسلامية بقيادة الولي الفقيه على امتداد الأمة الاسلامية، وشهدت حقبة الثمانينات من القرن العشرين بروز دعوات لقيام الجمهورية الاسلامية في لبنان، وعنوان “الثورة الاسلامية في لبنان” الذي كان الشعار الذي رفعه “حزب الله” على رايته الحزبية في ذلك الحين.
تصفيات
وخلال الفترة التي امتدت بين العام 1985 و 1990 تاريخ اقرار اتفاق الطائف، اي تلك المرحلة التي لا تزال اسرائيل تحتل فيها الشريط الحدودي، كانت مرحلة تصفية كل ما هو خارج القبضة السورية-الايرانية، بحيث تمّت تصفية عدد لا يستهان به من قيادات وكادرات يسارية وقومية في الضاحية وبيروت والجنوب، لحساب سيطرة الذراع السورية المتمثلة بـ”حركة أمل” ولحساب الذراع الايديولوجية الايرانية المتمثلة بـ”حزب الله”، وتمّت تصفية كل نشاط عسكري في المقاومة خارج “أمل” و “حزب الله”، ولاحقاً وبعد معارك دموية بينهما في الجنوب والضاحية وبيروت ونزاع حاد دام لاكثر من اربع سنوات، جرى حصر نشاط المقاومة العسكرية بـ”حزب الله”، بعد تفاهم اقليمي بين سوريا وايران، في العام 1991، تمّ خلالها اجراء مصالحة بين التنظيمين الشيعيين، واعطي للرئيس نبيه بري اليد العليا في ادارات الدولة وانتخب رئيساً للبرلمان في العام 1992 ولا يزال، فيما تولى “حزب الله” تنفيذ مهمة المقاومة باشراف سوري وايراني.
ما آل اليه هذا المشهد، هو انتقال وظيفة المقاومة ضد الاحتلال الاسرائيلي بالكامل من اطارها اللبناني ومن نظام المصالح الوطنية، الى النظام الاقليمي برعاية ايرانية وسورية، وباتت المقاومة المقتصرة على “حزب الله”، بعد الطائف، اشبه بجزيرة داخل لبنان، يتحمل لبنان تبعاتها فيما تقرر سوريا وايران مسارها العسكري والسياسي، اي ان المقاومة هذه وان كانت تسعى الى تحرير الجنوب، الا أنها كانت ورقة اقليمية لا يملك لبنان اي تأثير عليها، بل جرى وضع المقاومة في سياق مقابل للدولة، التي كانت في خطاب “حزب الله” وانصاره طرفاً مشكوكاً فيه، في مقابل اعلان الولاء المطلق لايران ولسوريا. وكانت الدعوة لدخول الجيش الى الجنوب من قبل الحكومة في العام 1993 قد اعتبرت طعناً في ظهر المقاومة، ولا يزال العماد اميل لحود يتحدث بفخر عن انه رفض طلب الحكومة دخول الجيش، وحينها كان يتولى قيادة الجيش.
رهينة المحبسين
على هذه السوية جرى الانسحاب الاسرائيلي من الشريط الحدودي العام 2000 أي ان المقاومة التي رفضت ان “تتلبنن” وبقيت “رهينة المحبسين” الايراني والسوري، طيلة مرحلة ما بعد الطائف، رفضت ان تجيّر الانجاز التحريري في سياق وطني، وعلى رغم الاحتضان اللبناني الشامل لهذا الانجاز، والاحتفاء به في طول المناطق اللبنانية وعرضها، بقيت ارادة امين عام “حزب الله” جعل المقاومة جسماً غريباً عن الاجماع الوطني ومنفصلاً عن نظام المصالح الوطني، فطالما ان اللبنانيين لم يقروا بمرجعية ايران وسوريا على لبنان وعلى هذه المقاومة كما يشتهي ويعمل، فان اللبنانيين منقسمون حول المقاومة، “حزب الله” يريدها امتداداً سورياً ايرانياً على حدود اسرائيل الشمالية، فيما جزء كبير من اللبنانيين يريدونها في سياق لبناني يعطي الأولوية لنظام المصلحة الوطنية، من دون ان يشكل ذلك أيّ انتقاص من الدور الاقليمي. غداة التحرير في 25 ايار من العام 2000 اجمع اللبنانيون على اعتباره عيداً وطنياً يحتفلون به كل عام، لكن ذلك لم يقنع “حزب الله” ولا رعاته، بأهمية حماية هذا الانجاز، وعدم تحميل لبنان اعباء اضافية تجاه قضية فلسطين والأراضي السورية المحتلة، فاختلقت مسألة مزارع شبعا، التي رفضت سوريا الاقرار بلبنانيتها، من خلال رفض ترسيم الحدود مع لبنان، وكان ذلك ايذاناً بابقاء لبنان دولة معلقة في حسابات اقليمية، وبقيت المقاومة مشروعاً منفصلاً عن سياقاته اللبنانية، وباتت أول مقاومة مختصرة في حزب، ومنظمة عسكرية وايديولوجية توالي نظاماً خارجياً، تدير نظام مصالحها داخل لبنان وترفض ان تكون ضمن استراتيجية دفاعية للدولة اللبنانية، لها جسمها الخاص، ودويلتها التي باتت اليوم وبعد عشرين عاماً على التحرير تسيطر على معظم مفاصل الدولة ان لم يكن كلها.
بعد عشرين عاماً على التحرير، يمكن ملاحظة ان تنامي نفوذ “حزب الله” كذراع ايرانية، ترافق مع تراجع كارثي للدولة اللبنانية على مختلف المستويات السياسية والاقتصادية، والمالية، وحتى على مستوى الحريات، وهذا ان دلّ على شيء فهو يدل على أن مشروع المقاومة الذي مثله “حزب الله”، بقي مشروعاً منفصلاً عن نظام المصلحة الوطنية، حوّل المقاومة من مشروع لبناني بآفاق عربية وانسانية، الى اداة اقليمية، وجعل منه في احسن الأحوال مشروعاً متركزاً في بيئة مذهبية، للتحكم به ولتجييره في سياقات حزبية ومذهبية داخلية، وسياقات اقليمية فئوية وضيقة.
ليس هامشياً ان يعقب انجاز التحرير ويسبقه، الغاء كل مظاهر التنوع الذي يفترض ان يكون عليه اي مشروع مقاومة في العالم، فالمقاومة للاحتلال دائماً ما تكون تعبيراً عن ارادة الشعب ودائماً ما تقوم على مشروع وطني يجمع كل مكونات المجتمع سياسياً واجتماعياً، ويجري تجيير انجازاتها في سياق وطني بالدرجة الأولى، وهذا ما جعل “حزب الله” يحرص على تسييج نفسه، يتيح لنفسه ان يتحكم بمسارات الدولة اللبنانية وخياراتها، ويرفض ان تتحكم الدولة اللبنانية بخياراته التي تؤثر بمصالح الدولة ومواطنيها. تحرير العام 2000 الذي احتضنه اللبنانيون كما لم يحتضنوا انجازاً من قبل، كانوا يرون فيه فرصة لاستعادة لبنان دوره وحضوره، وفرصة لاستكمال السيادة الوطنية، لكن ذلك لم يتحقق، فبقي لبنان دولة معلقة، وساحة تصفية حسابات، بحيث جرى تحميل انجاز التحرير اكثر مما يحتمل، ودخل في حسابات اقليمية، ودخل لبنان اكثر فاكثر في البوتقة الايرانية ولا سيما بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري، وحرب تموز 2006.
من أوّلاً؟
رغم كل هذه التداعيات السياسية التي مر بها لبنان خلال العقدين الأخيرين، فان الاسئلة التي فرضت نفسها غداة التحرير قبل عشرين عاماً هي نفسها اليوم تواجه اللبنانيين واولهم “حزب الله”، لبنان اولاً أم ايران اولاً أم سوريا.. أم فلسطين.. أم…؟ وهذا السؤال لبنانياً لا يعني بالضرورة القطيعة لا مع ايران ولا سوريا ولا فلسطين، وبالضرورة لا يعني القطيعة مع كل المنطقة العربية والعالم، بل يشدد على ان الأولوية الوطنية هي عنصر الحصانة للدولة والمجتمع، وهي بذلك تشكل رافداً من روافد القوة لما عداها من دوائر اقليمية ودولية وحضارية.
هذه الاسئلة تحضر اليوم لكن في ظروف سيئة، فما كان متاحاً قبل عشرين عاماً، لم يعد متاحاً اليوم، فصورة المقاومة كانت رغم النقد والانتقاد، في موقع يحظى باحترام واسع لبنانياً وعربياً وحتى غربياً، لم تكن تورطت في الحرب السورية، ولاحقاً امتدت الى بلاد عربية كانت فيها طرفاً في صراعات محلية او اقليمية، ولم يكن لبنان قد وصل بعد الى الحضيض المالي والاقتصادي، ولم يكن الفساد قد وصل الى المستويات التي بلغها في زمن الانتصارات المتتالية التي كان “حزب الله” يحققها، بحسب زعمه، في كل الحروب والمعارك التي خاضها، والتي باتت بعد العام 2006 في اماكن عدة باستثناء اسرائيل.
ما يرغب “حزب الله” دوماً باستبعاده، يواجهه اليوم وبقوة، وهو كيف يمكن المواءمة بين صعوده الامني والعسكري لبنانياً واقليمياً، وانهيار لبنان سياسياً واقتصادياً ومالياً؟ هذا السؤال يختصر بكل أسف غربة “الحزب” ومشروعه عن الدولة والوطن والكيان اللبناني، وان الانتصارات التي حققها كما يقول ويدّعي، ما هي الا اوراق في ملفات وسياقات كانت عبئاً على الدولة اللبنانية والكيان.
المقاومة ضُربت حين تحولت الى حزب ثم الى ميليشيا اقليمية، وحين قدمت مصالح الخارج على مصلحة الدولة، وحين الغت مفهوم التنوع والاختلاف، وتحولت الى جهاز امني وايديولوجي، وحين لم تستطع أن ترى ان المقاومة هي فعل تحرر من الاستبداد بكل ابعاده، فهي حتماً تحولت الى فعل تسلط بديل عن الاحتلال.