IMLebanon

تحرير الفلوجة يبدأ من بغداد

واجب الدولة المركزية بسط قانونها داخل الحدود وقد تلجأ إلى القوة لفرضه على العصاة. هكذا تبدو حملة الحكومة العراقية على الفلوجة منطقية لتليها حملة على الموصل وما جاورها.

وبهذا الواجب نسلّم، إذا كانت الدولة مركزية حقاً وكان قانونها واحداً يتساوى أمامه المواطنون. والحال أن «حزب الدعوة» الحاكم في بغداد، يهرب من عجزه أمام المعارضة الوطنية والنفوذ الإيراني المتمادي بفتح معركة لتحرير الفلوجة من سيطرة «داعش». أي أنه يصدّر المشكلة إلى خارج العاصمة من دون أن يحلّها في المكان الصحيح: بغداد.

الهجمة على الفلوجة لا تحظى بترجمة واحدة تقوم على إخضاع الطرف للمركز وصولاً الى المصلحة العليا للدولة ومواطنيها. ثمة ترجمات أخرى لا يمكن أن تنسب الى «الإعلام المعادي» لأنها تصدر عن وقائع حياة الأفراد والجماعات منذ الغزو الأميركي وحل الجيش العراقي وتسليم الحكم إلى جماعات الإسلام السياسي الشيعية الآتية من المنافي الأوروبية ومن جوار إيراني نظم اللاجئين العراقيين حزبياً وعسكرياً فشكّلوا بعد عودتهم ذراعاً له، ويصعب عليهم التنصُّل من هذه الصفة على رغم تمثيلهم الشعبي، خصوصاً آل الحكيم.

ما من عاقل يتفاءل بسيطرة الحكومة العراقية على الفلوجة. قد تحتل هذه المنطقة أو تلك، لكن «داعش» يتسرّب دائماً إلى مناطق قريبة ويفاجئ بهجوم، وهو يمارس كالعادة تفجيراته الانتحارية وغير الانتحارية في عمق المناطق الشيعية، مطبقاً بالتقسيط حكم إعدام على جماعة بكاملها. يذهب «داعش» إلى المدى الأقصى للحرب الطائفية: إلغاء الآخر المختلف سبيلاً إلى حفظ الذات نقية كما يريدها «الخليفة» لا كما اعتادها المسلمون منذ بدء الدعوة. لكن الانتصار على «داعش» في أماكن معينة لا يعني انتصاراً على الطائفية، لأن المنتصر نفسه لا يخلو من دنسها مهما أعلن خطابه.

في معركة الفلوجة غموض ميداني وضباب إعلامي، إذ يروّج عراقيون أن ضربات جوية أميركية تساعد تقدّم جيش الحكومة على الأرض وهذا ما ينفيه عراقيون آخرون، بل نلاحظ شيئاً من الفخر بأن الحرب العراقية على «داعش» تفتقد مشاركة واشنطن، وصولاً إلى القول إن الأميركيين تركوا العراق لإيران في معركة الفلوجة وغيرها، والعسكريون الذين يقاتلون باسم الحكومة هم جيشها براياته المتعددة و «الحشد الشعبي» والإيرانيون ومساعدوهم من وراء الحدود.

ولا تتردد طهران في التذكير بأن جنرالاتها حاضرون على الأرض، وهي تشيع القتلى منهم باحتفاليات في العاصمة طهران.

المؤكد أن واشنطن تغض الطرف عن المشاركة الإيرانية، لكنها تنأى بالنفس عن حرب لا يستطيع حكام بغداد إنكار طابعها الطائفي. هنا نعود الى كلام طالما ردّده باراك أوباما بأن لا مصلحة لواشنطن بالخوض في حروب طائفية عربية، هي الدولة الكبرى المنفتحة على مسلمي العالم.

«الحشد الشعبي» يحذر منه سنّة العراق وينسبون إليه فظاعات، على رغم إنشائه بمبادرة من المرجع المعتدل السيد علي السيستاني، والحذر سيتضاعف إذا صحّت التسريبات بأن إيران تنخر جسم هذا «الحشد» وصولاً إلى اعتباره نواةً لإنشاء «حرس ثوري» عراقي على شاكلة «الحرس» الإيراني الممتد من العسكر إلى السياسة إلى الاقتصاد، ما يزيد من تعقيد وضع معقّد أصلاً.

إنها الحرب الطائفية و «داعش» علامتها الأولى، حرب تأكل أخضر العراق ويابسه، ولا تقوى على الحد منها جارتا العراق، إيران وتركيا، اللتان يحكمهما إسلام سياسي شيعي وسنّي. كأنهما تشاركان في رعاية الانقسام العراقي، ربما برضى أميركي وروسي وبتعهّد المقاول المحلي «حزب الدعوة».

تحرير الفلوجة لمصلحة الدولة فإذا به لمصلحة الشيعية السياسية، وصمود الفلوجة للنجاة من حكم طائفي فإذا به لمصلحة وحشية «داعشية» مغلّفة بشعار الإسلام.

كأَنْ لا بطل في العراق ولا ضحية، ففي هذا المكان الدهري نبتت شجرة الفتنة وتلوّنت على مرّ الزمان، وهي تورق بالأحمر الدموي وتتعمّق جذورها في المقابر الجماعية.

تحرير الفلوجة والموصل يبدأ من بغداد من قرار مركزي سني- شيعي مشترك وواضح. لا الحكام المحليون يقبلون على هذه المهمة ولا القوى الإقليمية والدولية، لتبقى للعراق صفة الجرح النازف الذي يهدد المنطقة.