IMLebanon

المقاومة ودروس الطوفان: بروفا ناجحة لتحرير شمال فلسطين

 

 

في الأيام الأولى لطوفان الأقصى، لم يُخفِ الرجل الخمسينيّ قلقه، ليس فقط بسبب الاحتمالات الجدّية للحرب واستنفار واشنطن أساطيلها البحرية والجوية ومساعي باريس لتأسيس تحالف دولي جديد ضدّ قوى المقاومة، بل بسبب افتقاد المقاومة اللبنانية السيناريو – الحلم الذي كان الشغل الشاغل للأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله، قبل أن تضع «كتائب القسام» جزءاً من خطة «قوة الرضوان» موضع التنفيذ صباح السابع من تشرين الأول الماضي. ومبعث القلق، هنا، أن المقاومة تجد نفسها وجهاً لوجه مع الحرب، مفتقدة عنصر المباغتة، والسيناريو الذي صاغت تفاصيله بدقّة.بعد نحو ستة أشهر، يبدو الرجل نفسه أقلّ قلقاً وأكثر سعادة بعملية السابع من أكتوبر، بعدما كشفت ثغرات المنظومة الاستخبارية والتكنولوجية والأمنية والبشرية الإسرائيلية، واكتشفت «قوة الرضوان» الحدود التي كان يمكن أن تصل إليها وكيفية تصرّف إسرائيل والدول الداعمة لها على مختلف الصعد. بين اللقاءين، تحوّل «النَفَس» الذي بدأ قلقاً إلى نفس إيجابي جداً. ففي ظل ضغط إسرائيلي واستنفار دولي، ومن دون الانجرار إلى ما يحقق مساعي إسرائيل لطلب نجدة دولية جراء تعرّضها لحرب شاملة، نجحت المقاومة في تعديل خططها بسرعة لتحقيق الأهداف نفسها، فأنجزت «تحرير» الشمال الفلسطيني من المستوطنين الذين اضطرّوا إلى النزوح، وأطبقت على الأهداف العسكرية الإسرائيلية التي تعرّضت للنيران الصغيرة والمتوسطة في رسائل غير مشفّرة عمّا سيحلّ بها حين تدخل الصواريخ الجدية في المعركة.

وهنا ثمة ثلاث نقاط أساسية:

أولاً، ظاهرة الإسرائيلي المهجّر من شمال فلسطين، من دون إعلان رسمي عن الحرب، يعدّ سابقة في الصراع مع إسرائيل. صحيح ما يقوله لبنانيون وعرب، بإيعاز إسرائيلي أو من دونه، بأن نزوح المستوطنين يقابله نزوح للجنوبيين، إلا أن طبيعة العلاقة بالأرض والحرب والأمن تختلف تماماً بين الجانبين. في 14 آب 2006، عاد الجنوبيون جميعاً، بعد ساعات فقط من إعلان وقف العمليات العسكرية، إلى قراهم ومدنهم قبل أن ينجلي غبار المعارك، فيما عودة المستوطنين دونها صعوبات أمنية ومالية ونفسية تدفع الإسرائيليّ إلى حشد المبعوثين الدوليين للبحث عن تطمينات لهم.

ثانياً، مقابل بنك الأهداف الإسرائيلية الواسع والكبير الموجود لدى الحزب، ولا سيما القواعد الجوية الإسرائيلية التي وصلتها رسائل نارية معبّرة، بدا واضحاً أن التكنولوجيا الإسرائيلية وأذرعها الاستخبارية (من الأقمار الاصطناعية ومراقبة الهواتف والإنترنت الى رصد منسوب مياه الخزانات لتقدير وجود أحد في المنزل) لم تصل سوى إلى مركبات متحركة وأشخاص وليس إلى مخازن الصواريخ والأسلحة النوعية.

ثالثاً، في إدارة المعركة، تقصّد حزب الله استهداف نقاط أمنية إسرائيلية بعد استحداثها بساعات قليلة لإرسال رسالة إلى الإسرائيلي بأن الحزب، رغم كثافة النيران وصخب التكنولوجيا الإسرائيلية، لا يزال يرصد أدقّ التفاصيل شمال فلسطين المحتلة، ولديه القدرة على استهداف ما يريد ساعة يريد. وهو رغم ذلك، آثر حصر ضرباته بالنقاط العسكرية رغم قدرته على استهداف مصانع وأهداف أخرى تندلع منها النيران لأيام، وذلك لعدم إهداء إسرائيل فرصة التقاط أنفاسها عالمياً بوصفها الضحية، ولعدم إعطائها ذريعة لاستهداف البنية التحتية اللبنانية. وضمن الحرص نفسه، تبدو عملية تهجير المستوطنين الإسرائيليين أكثر خطورة من حيث التكتيك العسكري من حلم «تحرير الجليل» كما كان متخيّلاً قبل 7 أكتوبر. فقد حقق الحزب أهدافه بفاتورة بشرية أقل من تلك التي كانت ستدفع في حالة الحرب التقليدية، ومن دون أي صخب إعلامي أو صور من شأنها أن تقسم الرأي العام العالمي بين مؤيد ومستنكر كما حصل في 7 أكتوبر.

في وقت فقدت فيه إسرائيل توازنها، بعد ساعات من بدء طوفان الأقصى، كانت المقاومة ترصد، بدقة، ردود الفعل الإسرائيلية على المستويَين الأمني – التكنولوجي والعسكري، ونقاط الضعف سواء تلك التي اكتشفها الإسرائيلي لإيجاد بديل لها أو التي لم يكتشفها لاستثمارها، وكذلك نقاط القوة للالتفاف عليها. ومن دون أن تكشف المقاومة عن أيٍّ من أسرار ترسانتها الضخمة، بما فيها التكنولوجيا والأسلحة التي تعلم إسرائيل أن المقاومة تملكها، اضطرّ الجيش الإسرائيليّ إلى الكشف عن كل ما طوّره من تكنولوجيا في انتظار لحظة الحرب مع لبنان، قبل خمسة أشهر على الأقل من تلك اللحظة. بوضوح، يقول الخمسيني: «كشف عدوّنا عن كلّ ما لديه، من دون أن نكشف عن أيٍّ ممّا لدينا».

هذا التحوّل في المنطق من الانكسار إلى الانتصار والبحث عن الإيجابيات ومراكمتها بدل الاستسلام للسلبيات ليس تفصيلاً هامشياً في عالم الحرب. كان التحدّي بالنسبة إلى إسرائيل، صباح 7 أكتوبر، إعادة المستوطنين إلى غلاف غزة مع ما يستوجبه ذلك من استعادة للهيبة الأمنية والعسكرية، فوجدت نفسها بعد أيام قليلة أمام تحدّي النزوح من الشمال أيضاً. وفي ظل الإدارة الذكية للمعركة، تجاوزت الخسائر الإسرائيلية الحدود التي كان المقاومون يحلمون بها، لتصل إلى حدّ عودة المطالبة الدولية بالدولة الفلسطينية، ونفور مثقفي الغرب من إسرائيل والإسرائيليين وتبريرهم الأخلاقي لعملية حماس، والعزلة السياسية لإسرائيل في العالم. وهو ما يقود الخمسينيّ المطّلع إلى القول إن تحديد السلبيات والإيجابيات عنصر أساسيّ في سياق تطوير المقاومة لقدراتها واستخلاص العبر، لكن حجم الإيجابيات تجاوز الملعب التقليدي هذه المرة. فكل ما تفعله المقاومة من فضح الإجرام والضعف الإسرائيليين، وتهجير المستوطنين، وخلق أزمة ثقة بين الإسرائيليين وقادتهم، وإيصال رسائل عسكرية نوعية أسبوعياً على الأقل، إنما يجري انطلاقاً من 3 نطاقات جغرافية: الأول (غزة) محاصر ومدمر بالكامل، والثاني (لبنان) يحصر ببضعة كيلومترات، والثالث (اليمن) تعرّض لكل أشكال العدوان في السنوات العشر الماضية. وبالتالي، إذا كان العدو الاسرائيلي قادراً على قتل المقاومين في منازلهم أو في السفارات، ويعجز عن إيقاف النيران في رقعة جغرافية ضيقة ومراقبة من الجو بالكامل، ماذا ستكون عليه الأوضاع في حال توسّع النطاق الجغرافي للحرب؟ وإذا كان الإسرائيلي عاجزاً عن وقف تهجير مئة ألف مستوطن، رغم استنفاره الأمني والعسكري مع أصدقائه في العالم بعد السابع من أكتوبر في ظل لجوء المقاومة إلى خطط بديلة، كيف ستكون الأوضاع في حال التقاط المقاومة أنفاسها كما حصل أخيراً ووضعها خططاً إضافية؟

كشف عدوّنا عن كلّ ما لديه من دون أن نكشف عن أيٍّ ممّا لدينا

 

في اللحظات الأولى لطوفان الأقصى، كان يمكن سماع أكثر من تقدير لدى المعنيين في بيروت. كان هناك المتحمّس والمتحفّظ، المتفائل والمتشائم، القلِق والمطمئن، المبتهج والمشكك، أما اليوم فلا شيء من هذا كله. يردّد الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله ما يشبه كلمة السر حين يقول إن الميدان من يقرر، ومن في الميدان كانوا دقيقين جداً في قراراتهم، وخصوصاً حين فعلوا ما لم تفعله المقاومات سابقاً عبر تكثيف الإصابات الأمنية والعسكرية الموجعة والمحمّلة بالرسائل للجنرالات الإسرائيليين والمستوطنين، من دون أن يُستدرجوا إلى الفخاخ الإسرائيلية.

ملاحظة: في نقاش مع مسؤولين في حزب الله، يقول أحد المطّلعين إن السيناريوات كثيرة في حالة الحرب الواسعة التي لا يمكن التسرّع في القول إن احتمالاتها تراجعت نتيجة التعب والتخبّط الإسرائيليين. ومن هذه السيناريوات قيام إسرائيل باجتياحات برية، ولكن ليس من البوابة الجنوبية، بل عبر ما تعتبرها إسرائيل «مناطق آمنة» لها لفصل أجزاء من بيروت وبعبدا عن جبل لبنان، وفصل جبل لبنان عن البقاع، وفصل البقاع عن سوريا، وفصل البقاع الغربي عن الجنوب وفصل البلدات الجنوبية عن بعضها البعض. ويتعامل الحزب بجدية مع كل السيناريوات بما فيها الخيالية، وهو اتخذ منذ أشهر كل الترتيبات اللازمة لمحاكاة هذا السيناريو في حال وضعه الإسرائيليّ موضع التنفيذ كما يأمل سياسيون لبنانيون لم يغادروا مربع أحلام المراهقة بعد.