ما الذي يجمع بين حرب التحرير التي أعلنها العماد ميشال عون في 14 آذار 1989 لإخراج جيش النظام السوري من لبنان، وحرب التحرير التي يُعلنها السيد حسن نصرالله الأمين العام لـ«حزب الله»، وتتجاوز مسألة تحرير لبنان إلى تحرير فلسطين من الإحتلال الإسرائيلي، وطرد القوات الأميركية من كل الشرق الأوسط، وتحرير عدد من دول المنطقة من أنظمتها لأنّها لا تُماشي مشروع الجمهورية الإسلامية في إيران، أو تقف ضدّه دفاعاً عن نفسها؟
في كتابه «ميشال عون رجل التحدّيات» يقول الوزير السابق المحامي كريم بقرادوني مختصراً: «فيما كان عون يعلن في 14 آذار 1989 عودة الدوائر العقارية في المتن وكسروان إلى عهدة الدولة، انهال القصف المدفعي السوري على المناطق الشرقية، وبخاصة على مرفأي بيروت وجونيه، ما دفع الجيش إلى الردّ عسكرياً في وقت رفض فيه السوريون أيّ اتصال لوقف إطلاق النار. وحوالى الساعة الأولى بعد الظهر استهدف القصف السوري مبنى قيادة الجيش في اليرزة الذي أُصيب بأضرار جسيمة، كما أصيب مكتب العماد ميشال عون إصابات مباشرة واستقرت إحدى القذائف التي لم تنفجر على الكرسي الذي يجلس عليه الجنرال عادة. انتشر خبر احتمال إصابة عون بسرعة البرق، ما اضطرّه إلى عقد مؤتمر صحافي ليتثبت أنّه لم يصب أعلن فيه بدء حرب التحرير: «إن مجلس الوزراء قرّر اتخاذ جميع التدابير لسحب القوات السورية فوراً من لبنان… وإنّ معركة تحرير الأرض من السوريين قد بدأت… ونحن ملتزمون تحرير أرضنا، ولا نستطيع البقاء بعد اليوم تحت رحمة المدفع السوري… فالمدفع السوري له محلّ واحد فليتفضّل إلى هضبة الجولان المحتلة».
هذه الرواية المبسّطة لشنّ حرب تحرير لبنان من سوريا لها مقدّمات ومتمّمات. لم يظهر أنّ قائد الجيش العماد ميشال عون قد أعدّ مسبقاً، مع أركان قيادته، خطة عسكرية للتحرير درسوا فيها موزاين القوى العسكرية بين الجيشين اللبناني والسوري في سوريا وفي لبنان، ومواقف الدول الكبرى التي كانت ترعى الوضع القائم في لبنان، ليبنوا على أساسها قرار إعلان هذه الحرب. فهل يمكن أن يكون هذا القرار الكبير اتُّخِذ لمجرّد استهداف مكتب العماد عون بقذيفة استقرت على كرسيه؟
حرب تحرير بالمدافع
في ذلك اليوم كان العماد عون قد أعدّ خطة للهجوم على المجلس الحربي، حيث مقرّ قيادة «القوات اللبنانية» في الكرنتينا، ووزّع أمر العمليات على الوحدات العسكرية المكلّفة بالتنفيذ ومن بينها القوة التي كان يقودها الضابط شامل روكز، الذي عاد حديثاً وبعد كل هذه الأعوام ليكشف عن هذا الأمر منتقداً قرار عون. وكانت «القوات اللبنانية» على علم بهذا القرار وحاولت توسيط عدد من الوسطاء لثني عون عنه. فجأة استدار عون ليعلن حرب التحرير ضد الجيش السوري في لبنان وأدار المدافع نحو أهداف أخرى في بيروت الغربية والمتن وعاليه، حيث مرابض مدفعية الجيش السوري لتتحول حرب التحرير إلى مجرد حرب بالمدافع والقصف.
كان عون أجرى اختباراً للنوايا السورية تجاهه عندما شنّ في 14 شباط 1989 معركة ضد «القوات اللبنانية» عمل قائدها سمير جعجع على احتوائها بالتنازل عن بعض المواقع التي كانت تديرها «القوات» وطالب عون بتسليمها لـ»الدولة»، ومنها الدوائر العقارية في بعبدا وكسروان ومرفأي بيروت وجونيه. من بكركي أعلن جعجع أنّ «الجنرال بيمون». ولكن الجنرال لم يكن ليتراجع عن قرار السيطرة على كل الشرقية و»ضبّ» «القوات» ونزع سلاحها، لأنّه اعتقد أنّه بهذا الفعل يستطيع أن يحصل على تأييد النظام السوري لانتخابه رئيساً للجمهورية. ولكنّ النظام السوري كان خارج تصوّرات عون. اعتقد عون أيضاً أنّ تسليم «القوات» للمرافئ الشرعية والدوائر العقارية يجب أن يُستتبَع بتسليم مقابل للمرافئ غير الشرعية التي يديرها الحزب التقدمي الإشتراكي وحركة «أمل» في المناطق الغربية. استمرّت هذه المرافئ بالعمل على رغم تهديد عون، فبدأ القصف وبدأ الردّ وبدأت حرب التحرير.
كانت «القوات» تعرف
كانت «القوات اللبنانية» تتقاسم مع الجيش اللبناني مهمّة الدفاع عن حدود المناطق الشرقية. بعد تولّي عون قيادة الجيش بدأ العمل على تحقيق حلمه بانتخابه رئيساً للجمهورية وبدأ معركة السيطرة على الجيش من الداخل وتحريضه على «القوات»، وبدأت معه الإشكالات على الأرض قبل أن يتيح له الرئيس أمين الجميل مرة ثانية فرصة الوصول إلى رئاسة الحكومة العسكرية في 22 أيلول 1988 بعد تعذر انتخاب رئيس للجمهورية. اعتبر جعجع أنّها حكومة استقلال مراهناً على أن عون لن يقدم على ما يُعتبر خطيئة محرّمة وهي أن يصطدم مع «القوات» بدل أن يتكامل معها في الدفاع عن المناطق الشرقية. وهذا ما كان تعهّد له عون به بعد تكليفه.
وكانت «القوات اللبنانية»، بحكم خبرتها ودورها في الحرب وعلاقاتها الدولية وبجهود أجهزتها الإستخبارية، تعلم بشكل دقيق ميزان القوى العسكرية بينها ومعها الجيش اللبناني، وبين الجيش السوري الذي كان يطوّق المناطق الشرقية. وكانت تعلم أيضاً أنّ قرار تحرير لبنان من الجيش السوري لا يمكن أن يكون قراراً عسكريا بقرار محلي، من «القوات» أو من الجيش، لأنّ وجود هذا الجيش في لبنان تحكمه معطيات دولية ترافقت مع ظروف دخوله إلى لبنان. وكانت تدرك أيضاً أنّ الحماية المؤمّنة للمناطق الشرقية لا تقتصر على القوة العسكرية وحدها، بل على المظلة الدولية التي وضعت خطوطاً حمراً أمام النظام السوري وحدّدت حركة قواته ومداها في كل لبنان بانتظار أن تأتي الظروف التي تفترض عودة الجيش السوري إلى سوريا.
على ماذا استند عون؟
قرار عون المفاجئ بإعلان حرب التحرير استند، بعد إعلانه، إلى تصور شامل عنده يقوم على عدة احتمالات لا يمكن أن تتحقّق ولكنّه اعتقد أنها ستتحقّق فور الإعلان عن هذه الحرب. اعتقد عون أنّ النظام السوري كان يجب أن يؤيّده فوراً بعد حرب 14 شباط ضد «القوات». واعتقد أنّ «المسلمين» في لبنان سيقفون إلى جانبه بعد تحرير المرافئ والدوائر العقارية من سيطرة «القوات» وأنهم يضيقون ذرعاً بالنظام السوري، وأنّ التقدمي الإشتراكي و»أمل» وغيرهم سيعمدون فوراً إلى إقفال المرافئ ويلتزمون تطبيق أوامره. واعتقد أيضاً أنّ العالم كله سيهبّ إلى تأييده لأنّ قرار التحرير صائب لا يمكن رفضه. واعتقد أنّ الشعب الأميركي سيثور ضد «نظامه» تأييداً لثورة عون وسيفرض على الإدارة الأميركية اتخاذ قرار، بتوقيت عون، لطرد الجيش السوري من لبنان.
اعتقد عون أيضاً أنّ الرئيس العراقي صدام حسين سيفتح الجبهة ضد نظام حافظ الأسد وسيلاقي حرب تحريره بحرب تؤدّي إلى إسقاط الأسد وانتصار عون. واعتقد أيضاً أنّ الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات قد سلّمه قرار البندقية الفلسطينية عندما التقاه في تونس، واعتقد أن أوروبا ستؤيّده كما تؤيّده باريس تيمّناً بقرار الجنرال ديغول القتال ضد الإحتلال النازي لبلاده. وهو طالما اعتبر أنّ حكومة الرئيس سليم الحص التي عوّمها النظام السوري بعد 23 أيلول 1988 هي بمثابة حكومة فيشي الفرنسية التي خضعت للإحتلال النازي لفرنسا. ولكن كل هذه التوقعات سقطت ولم تتحقّق. ولكن الجنرال عون ظلّ يتأمل بأنّه مع الوقت سيغيِّر العالم. والعالم لم يتغيَّر كما حلم عون بل كان يتغيَّر في الإتجاه المعاكس الذي كان يتمنّاه.
عون يهدّد بقصف دمشق
في آب 1989 هدّد عون بقصف العاصمة السورية دمشق، وقال إنه «هزّ المسمار» وبقي أن يكسر رأس حافظ الأسد. كان عون يأمل بأنّه سيحصل على صواريخ «فروغ»، أو «سكود» المتوسطة المدى من العراق وأنّه يمكنه بواسطتها أن يقصف دمشق ويهزّ المسمار السوري في لبنان ويهزّ نظام الأسد. ربما كان في نية صدام حسين أن يرسل مثل هذه الصواريخ إلى العماد عون، أو أنه أرسلها فعلاً، ولكنّها لم تصل أبداً إلى لبنان. وصل التهديد إلى دمشق وكان الردّ عنيفاً على عون وعلى المناطق الشرقية.
كل ذلك لم يمنع العماد عون من الموافقة لاحقاً على وقف إطلاق النار وذهاب النواب اللبنانيين إلى الطائف في المملكة العربية السعودية. ولم يمنعه من رفض الإتفاق الذي توصلوا إليه وكان يؤمّن مخرجاً مشرّفاً له. ولم يمنعه من رفض كل التدخلات معه لتأييد «الطائف» من واشنطن إلى الفاتيكان وصدام حسين وياسر عرفات. وكل ذلك لم يمنعه أيضاً من شنّ حرب الإلغاء ضد «القوات اللبنانية»، ثم من التواصل مع النظام السوري الذي مدّه بكل وسائل الدعم ليكمل حربه ضد «القوات» قبل أن يغتنم الفرصة الدولية المؤاتية بعد اجتياح صدام حسين للكويت ويشنّ حرب 13 تشرين لتحرير قصر بعبدا من الجنرال عون ويحتلّ وزارة الدفاع بما فيها مكتب عون وكرسيه التي استقرت عليها القذيفة التي فجّرت حرب التحرير.
وكل ذلك لم يمنع عون في العام 2005 من التلاقي مع النظام السوري لضمان عودته إلى لبنان مقابل أن يتضامن معه ومع «حزب الله» ضد قوى 14 آذار بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري. ولم يمنعه أيضاً من الإنتماء إلى محور الممانعة بعد انتخابه رئيساً للجمهورية في 31 تشرين الأول 2016.
حرب نصرالله
كما عون، يشن «حزب الله» بقيادة السيد حسن نصرالله حرب تحرير ما تبقى من أراضٍ لبنانية محتلّة من إسرائيل ويهدّد بإزالتها من الوجود لأنّها باتت أوهن من بيت العنكبوت. ويريد طرد جيوش الولايات المتحدة الأميركية من المنطقة، وتحرير عدد من الدول العربية الخليجية من أنظمتها. ويعتبر أنه هزّ المسمار، وأن إسرائيل إلى زوال، ومعها النظام الأميركي بسبب سقوط القيم الإنسانية والأخلاقية. ويتّكل على الصواريخ التي يمتلكها وتزوّده بها إيران وروسيا والصين والنظام السوري، ويمكنه من خلالها أن يقصف كل المواقع الإسرائيلية ويكسر رؤوس قادة الكيان الإسرائيلي.
يتبع السبت 16 آذار:
هل استراتيجية التحرير عند نصرالله تُشبه استراتيجية عون؟