على بحر من النفط والغاز تعوم ليبيا، وعلى بحر من التناقضات ومصالح الدول المتباينة تغرق. لعلّها ببساطة لعنة الجغرافيا!
كثيرة هي المؤتمرات التي عُقدت، والمفاوضات الليبية – الليبية التي جرت في القاهرة، وقبلها في جنيف، مروراً بالصخيرات المغربية، ومن ثم برلين، وصولاً إلى بوزنيقة المغربية أيضاً، حيث كانت الأنظار شاخصة إليها، وإلى ما سيتبعها من خطوات منتظرة. لا شك في أنّ اللاعبين كثر، والكل يرى ليبيا بعين بلاده، والكل أيضاً يسعى إلى تثبيت موطئ قدم له في بلد غنيّ باحتياطيّاته من الذهب والحديد والخامات المغناطيسية واليورانيوم، وغيرها من المعادن.
وليبيا، البلد العائم على بحر من النفط، تحتل المرتبة الخامسة عربياً باحتياطيّ يبلغ أكثر من 48 مليار برميل، ومرشّح للارتفاع بحسب وكالة الطاقة الأميرِكية، لتحتلّ بذلك المركز الخامس عالمياً في احتياطات النفط الصخري، بعد روسيا والولايات المتحدة والصين والأرجنتين، وهذا يعني عملياً أيضاً أنّ العمر الافتراضي لإنتاج النفط في البلاد سيرتفع من 70 عاماً إلى 112 عاماً.
هذا البلد أيضاً غني بالغاز، حيث يمتلك أكثر من 54 تريليون قدم مكعب منه، ما يضعه في المرتبة الـ21 عالمياً.
إذاً، هذه هي ليبيا وأكثر. فهذا البلد الضارب في الأرض منذ عشرين قرناً ويزيد، يستطيع أن يهدّد شرايين مواصلات البحر المتوسط بأكملها، كما أنّه يمكن من خلال هذا الموقع، الزحف يميناً إلى الشرق الأوسط، ويساراً إلى شمال أفريقيا، فضلاً عن قوة ليبيا بموقعها بين قوتين محوريتين، هما مصر من الشرق، والمغرب العربي من الغرب. وبعد، فإنّ توسّطها ساحل البحر المتوسط الجنوبي يضعها في مواجهة مع قوسي الاستعمار البريطاني القديم في شمال شرق أفريقيا، والفرنسي في شمالها الغربي. لذا، لا عجب إن كنا أمام خارطة دولية بكل ما للكلمة من معنى.
العالم كله في ليبيا، مع بداية الربيع العربي فيما كانت عين الأميركي وتركيزه منصبّين على سوريا، وفعلاً لم يكن مهتماً بالملف الليبي، بدليل أنّه كان آخر الواصلين الى هناك.
لكن، بعد إصرار فرنسي ـ بريطاني، دخلت واشنطن على خط الأزمة، وجرت شرعنة التحالف الدولي.
إذاً، هنا بدأت ترتسم ملامح الخارطة الليبية، حيث بات التحالف الدولي بقواه العظمى وبكل ثقله على الأرض، كأنّ العالم حضر وغابت ليبيا. وفي السياق نفسه، برز تحالف رباعي عربي- أوروبي، غير معلن بالشكل لكنه منسجم في المضمون، وهو مؤلّف من الإماراتي والمصري والسعودي والفرنسي، ولعله يكون المحور المواجه للقطري ــ التركيّ!
دخول الإمارات لم يعد في إطار امتلاك الأوراق وتوجيه الرسائل فقط، بل إنه تخطّى هذا الأمر وبات أبعد من ذلك.
فها هي الإمارات تنظر بعين استراتيجية أكبر إلى مصالحها في القارة السمراء، وها هي تسعى جاهدة إلى إنشاء قاعدة عسكرية لها في موريتانيا، وذلك بات قريباً على ما يبدو.
أمّا تركيا، التي دخلت بقوة في الآونة الأخيرة على خط الأزمة الليبية، وأنقذت حلفاءها في طرابلس، بعدما كان خليفة حفتر على مشارف العاصمة طرابلس، فها هي تواجه فرنسا لاعتبارات « ثرواتية»، بالنظر إلى ثروات المتوسط، والصراع على النفط والغاز فيها، متسلّحة بعضويّتها في الناتو، ومن هنا يتضح جليّاً أنّ ليبيا تمثّل بالنسبة الى تركيا ملعباً صغيراً وساحة، يؤديان إلى تحقيق هدف أكبر.
وإن كان الجرح العربي النازف يفتقد قائداً عربياً ينتشل هذه البلاد من أطماع الأجانب والغرباء، فإنّه يجب الإقرار والاعتراف، أنّ خطوة الرئيس التركي رجب طيب إردوغان، أحرجت المجتمع الدولي. فها هو اردوغان يدخل ليبيا بطلب من حكومة الوفاق المعترف بها دولياً، على عكس كل القوى العظمى وغير العظمى، التي دخلت الأراضي الليبية وتدخّلت في الصراع القائم عليها. تركيا نفسها تسعى إلى التوافق مع روسيا، على غرار ما جرى التوصّل إليه في سوريا.
فالاتفاق على توحيد المسار أمر وارد بقوّة، وملامحه باتت واضحة، في ظلّ تثبيت تركيا نفوذها في المنطقة الغربية، بينما تتوجّه موسكو نحو المنطقة الشرقية.
ولعلّ التاريخ الروسي أيام ستالين يعيد نفسه اليوم مع بوتين.
وفي هذا الإطار، يُذكر أنّه بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية وانتصار الحلفاء، الذين قرروا عقد مؤتمر في لندن لمناقشة تركة إيطاليا الاستعمارية في أفريقيا، وهي ليبيا وإريتريا والصومال، يومذاك، طالب ستالين بأن يكون للاتحاد السوفياتي حق الولاية على إقليم طرابلس، وهذا ما عارضه الإنكليز في ذلك الوقت، وهم اليوم يفضّلون اللعب وحدهم، وإن كان قد حدث تنسيق محدود مع الإيطاليين.
وبعد، فإنّ الدور الأوروبي في ليبيا يشمل فرنسا أيضاً، وهي صاحبة النفوذ الكبير في المنطقة الجنوبية. أمّا آخر الوافدين الأوروبيّين إلى ليبيا فهم الألمان، الذين دخلوا على خط الأزمة، وأنشأوا مساراً خاصاً لبرلين، كأنما هو ردّ على مسار الصخيرات، وهذا الأخير بدوره جاء رداً على مؤتمر القاهرة، في الوقت الذي تطول فيه قائمة المؤتمرات الليبية.
ولعلّ المبعوث الأممي السابق إلى ليبيا غسان سلامة، قالها جازمة وواضحة قبيل مغادرته طرابلس، بأنّه لم يجرِ التوصل إلى حلّ سلمي في ليبيا، لأنّ كثرة الطبّاخين تفسد الطبخة، وإن كنا هنا لسنا في معرض تقييم عمل السيد سلامة، ولا في وارد تسليط الضوء عليه، إلّا أنّ الرجل أقرّ بجزء من الحقيقة. ليبيا تحتاج إلى 40 سنة!
يختصر ديبلوماسي رفيع المستوى، ومتابع للملف الليبي بدقّة الأزمة فيقول: «مشكلة ليبيا تكمن في التنافس الذي يجري من تحت الطاولة، وهو ما أدّى إلى فشل كل المبادرات التي طُرحت. ففي ظل غياب المؤسّسات، باتت ليبيا اللا دولة جوفاء، فاقدة أيّ عمل جديّ مؤسساتي وطني جامع، يضع اللبنات الأولى لفترة انتقالية، ويقودها إلى مرحلة بناء الدولة».
ويتابع المصدر قائلاً: «هذا الغياب عزّزه التدخّل الخارجي على نحو كبير، ما أدّى بالتالي إلى تناحر القبائل واقتتالها وتقاسمها السيطرة على أنحاء واسعة من البلاد، وما قادها نحو حرب أهلية حقيقية ومريرة يصعب وضع حدّ لها في القريب المنظور». يضيف الديبلوماسي الرفيع جازماً بأنّ «حل الأزمة الليبيّة لم يعد محلّياً».
ففي ظلّ الغياب التام تقريباً للعرب ولجامعة الدول العربية من جهة، وعدم اهتمام اتحاد المغرب الغربي بالشأن الليبي من جهة أخرى، خرج الملف الليبي من يد العرب بالدرجة الأولى، ومن ثم من يد المغاربة لاحقاً، ووُضع الملف كاملاً بيد الغرب. ومنذ تلك اللحظة بدأ تدويل القضية. ويتابع المصدر بالقول: «إذا توجّهنا إلى الأمم المتحدة، فإننا كما نرى، نجد أنّ هذه المؤسسة الدولية قد فقدت صدقيّتها».
ويرى الديبلوماسيّ، أنّ الحرب بالوكالة مستمرة، وأنّ نيرانها أشعلت صراعاً أهلياً بين أبناء البلد الواحد، سيمتدّ إلى جيلين على الأقل، ما يعني أننا سنكون أمام 40 عاماً من القتل والنهب والتدمير والصراعات والتجاذبات الإقليمية والدولية والمؤامرات، قبل أن تنعم البلاد مجدداً بالاستقرار والأمن والأمان وسيادة القانون، وحكم المؤسسات الدستورية والسلطة المنتخبة من أبناء الشعب الليبي.
لكن يبقى السؤال الذي يتبادر الى الأذهان هنا، أنّه خلال الأربعين عاماً المقبلة، ما هي الضمانة الموثوق بها التي يمكن أن تُعطى وتجزم بأنّ النموذج الليبي لن يتمدّد الى البلاد المجاورة، التي تشهد استقراراً نسبياً الآن، بعدما وصل نموذج الصوملة الى اليمن، وتمنع بالتالي وصول النموذج الليبي إلى بلاد المغرب العربي؟!