شمال أفريقيا، المنتظر الثاني. دولة كانت وما زالت ساكنة بقوة في الفكر التاريخي العقائدي لملالي إيران. هناك في الشمال الأفريقي ولدت الدولة الفاطمية الإسماعيلية الشيعية. انطلقت من تونس وامتدت إلى مصر والحجاز والشام وعدد من جزر البحر الأبيض المتوسط، كانت يوماً من أقوى كيانات التاريخ. في الأسبوع الماضي أقامت إيران احتفالية كبرى إحياء لذكرى رحيل آية الله الخميني. تحدث تلميذه وخليفته خامنئي عن أفكار الراحل ومناقبه، أعاد إشعال شعارات الثورة وجدد إصرارها على الاندفاع في نشر نفوذها في الخارج. كرر كلمة «النفوذ» بمعنى الهيمنة، وقال تحديداً، إن لإيران اليوم نفوذاً في غرب آسيا وشمال أفريقيا. اليوم يُدرس تاريخ الدولة الفاطمية في المدارس والجامعات الإيرانية وتعقد حوله الندوات والدراسات في مختلف المدن الإيرانية، وكذلك في الحوزات العلمية الشيعية، وتُعد فيه رسائل الشهادات العليا.
أسس الفاطميون دولتهم في تونس، واتخذوا من المهدية عاصمة لهم تيمناً باسم عبيد الله المهدي المؤسس بدعم من قبيلة كتامة المغاربية. أقاموا التحصينات وتقدموا في صناعة السفن التجارية والحربية وصار كيانهم الجديد قوة ضاربة في المتوسط. كانت الحركة الفاطمية تمزج بين الدعوة للمذهب الإسماعيلي الشيعي، والقوة العسكرية، وتوسيع القدرات المالية. منذ البداية سيطرت الرؤية التوسعية والتمكين للمذهب في أكبر رقعة من العالم العربي وخارجه. عبيد الله المهدي العراقي الشيعي، انتقل في البداية إلى اليمن للدعوة إلى المذهب. لم يستقر طويلا وغادر إلى مكة حيث انتقل من هناك إلى شمال أفريقيا رفقة قوافل الحجاج المغاربة. اتصل بقبيلة كتامة وعمل على التبشير بينها. عنوان الدعوة إقامة خلافة تحت راية آل البيت النبوي الشريف، والعنوان هو فاطمة الزهراء ابنة الرسول صلى الله عليه وسلم.
إذن، البداية هو الانتقال إلى أرض بعيدة عن مركز ثقل مركزية الحكم التي كانت في بغداد، والتحرك في الأطراف الرخوة وبين كتل اجتماعية لها القابلية لاحتضان الدعوة والقدرة والاستعداد القتالي للدفاع عنها ونشرها بقوة السيف.
هذه القاعدة نراها اليوم عملياً في حركة حكام إيران في المشرق العربي ويجرى الترتيب لها في شمال أفريقيا. الإرساليات السرية هي بذرة البداية التي تنبت الفكر وتخلق قوة التمكين له.
بعد اشتداد عودهم في تونس ومساحة واسعة من شمال أفريقيا تحركوا عسكرياً نحو مصر بقيادة جوهر الصقلي. مصر كانت قد وهنت عسكرياً وإدارياً، ضعفت قواها في أواخر عهد الإخشيديين، فبعد رحيل كافور ساد الخلاف بين القادة، ومصر كانت بالنسبة للفاطميين الهدف الأكبر، فمنها يمكن التحرك نحو الشام والحجاز مع ثقلها السكاني وإمكاناتها البشرية والزراعية والعلمية.
اليوم العين الإيرانية على شمال أفريقيا لأكثر من دافع؛ الأول، أن هناك سيولة أمنية وأودية في الإقليم، وغياباً لسيطرة الدولة القوية على مفاصل البلاد.
الثاني، بعد الإقليم عن المشرق العربي وهو مركز الصراعات والتداخلات السياسية والعسكرية بين القوى الإقليمية والدولية.
الثالث، يعتقد الإيرانيون أن بقايا الموروث الفاطمي الشيعي لا تزال حية في اللاوعي الشعبي في شمال أفريقيا، وأن الدولة الفاطمية التي سادت في شمال أفريقيا قد تركت فلكلوراً ثقافياً يمكن توظيفه في عملية التبشير اليوم للمذهب الشيعي.
الرابع، أن المذهب السني المالكي الذي بقي قوياً خلال العهد الفاطمي لم يعد اليوم قوياً في عقول الأجيال الجديدة، وبالتالي فإن المقاومة لحملة التبشير الشيعي الجديد لن تجد مقاومة دينية صلبة.
الخامس، الحركات المتطرفة التي انخرط فيها آلاف من أبناء شمال أفريقيا، تؤكد بالنسبة للرؤية الإيرانية استعداد شرائح من هؤلاء للانسياق في تيار الخطاب الإيراني المعادي للغرب وإسرائيل.
السادس، يرى الإيرانيون أن وجود موطئ قدم لهم في شمال أفريقيا يقدم لهم ورقة ضغط ذهبية على القارة الأوروبية.
وسيف المعز الفاطمي وذهبه يسكن العمامة الإيرانية. فعندما شكك بعض علماء مصر في نسب المعز إلى آل البيت جمعهم وقال لهم شاهراً سيفه: هذا حسبي، وأخرج كيس ذهبه قائلاً: هذا نسبي.
الإيرانيون يعتقدون أن الظروف الاقتصادية تجعل كثيراً من الشباب المعوز الغاضب قابلا للتوظيف والتحريك.
لماذا ليبيا؟
ليس سراً عند المتابعين والعالمين بالأمور أن إيران استطاعت عبر السنوات الماضية تأسيس خلايا شيعية لها في شمال أفريقيا. وقد تم اكتشاف عدد منها في ليبيا وتونس والجزائر والمغرب وموريتانيا.
انتشار الجدل الديني وبروز تيارات وافدة إلى المنطقة، وتراجع حضور المذهب المالكي الوسطي، شجع الإيرانيين على الدفع ببضاعتهم إلى الميدان المتلاطم التيارات والفتاوى والاجتهادات.
بعد الثورة الإيرانية وقيام الجمهورية الإسلامية، تطورت العلاقات بقوة بينها وبين ليبيا في المجالات العسكرية والمدنية. أعطيت الشركات الإيرانية أعمالا في قطاع الصيانة العسكرية وخاصة للطائرات المروحية، وكذلك في بعض مشروعات البناء وصيانة المصانع. أبلغ الأمن الداخلي عن وجود خلايا تبشيرية شيعية بين العاملين الإيرانيين في هذه المشروعات، وصدرت الأوامر بعدم تمكين الإيرانيين من الحصول على عمل بمشروعات تحتاج إلى مجموعات كبيرة من اليد العاملة، ثم تقرر استبعاد إيران من العمل في أي مشروع في الأراضي الليبية.
بالعودة إلى الخبر الذي أذيع حول دخول عناصر من الحرس الثوري الإيراني إلى الأراضي الليبية مؤخراً بهدف تأسيس خلايا تبشيرية، أنا لا أستبعد الرغبة الإيرانية في فعل ذلك، لكنني أشكك في القدرة على الفعل. من المنظور الديني والعقائدي، قد تراجع كثيراً التعاطف السياسي والمذهبي مع المذهب الشيعي عموماً ومع السياسة الإيرانية. التطاول الذي يطفح من شاشات بعض القنوات الفضائية الشيعية على الخلفاء الراشدين وأمهات المسلمين زوجات النبي صلى الله عليه وسلم، تسبب في غضب كبير بين الأوساط الشعبية في بلدان الشمال الأفريقي، وكذلك ما تقوم به إيران من التأجيج العسكري والفكري والسياسي للصراعات في سوريا ولبنان واليمن والعراق. طرحتُ سؤالا، لماذا ليبيا؟ أقصد لماذا تحاول إيران اختراق الأراضي الليبية لزرع خلاياها العسكرية والفكرية بها؟
أكرر (مكر الجغرافيا)، فعبر التاريخ كانت البلاد هدفاً لقوى كثيرة حتى عندما كانت قليلة السكان والثروة، فلها أطول شاطئ على البحر الأبيض المتوسط، وتقابل عدداً من الدول الأوروبية على الضفة الأخرى منه، وتمتد حدودها مع عدد من الدول الأفريقية المغلقة التي لا موانئ لها. بالإضافة إلى أنها تتوسط دول العالم العربي فهي الرابط بين شرقه وغربه. فقد كانت طريق الفاتحين من الشرق إلى الغرب العربي، وكذلك الطريق التي تقدم منها جوهر الصقلي نحو مصر.
بعد الضغوطات التي تزداد ثقلاً على إيران في المشرق العربي، هل تحاول نقل بضاعتها الطائفية إلى المغرب العربي عبر البوابة الليبية؟ نظرياً لا أستبعد ذلك، فالدولة الفاطمية لا تزال حية تحت عمائم آيات الله. هم أشعلوا من رماد التاريخ ناراً في اليمن ولن يترددوا في تحريك رماد لم يعد له وجود منذ ألف عام.