IMLebanon

كذبة الحقيقة

تتيح ثورة المعلومات المتواصلة سهولة فائقة للباحث والصحافي وقبلهما للسياسي في العثور على الوقائع والأرقام والتواريخ اللازمة لعمل كل منهم. يمتد الحقل المعرفي بفضل الثورة هذه إلى آفاق لم تكن تخطر في بال القارئ المعتمد في ثقافته على الكتب والصحف ووسائل الإعلام التي باتت تقليدية.

ثمة كمية لا تحصى من التقارير الصادرة عن مختلف الهيئات الدولية، السياسية والاقتصادية والحقوقية وغيرها، تكفي لرسم صورة قريبة من الواقع لجوانب مختلفة من النشاط البشري في العلوم والفنون والعمران، على سبيل المثل. كمية الكتب والمقالات والدراسات المتوافرة رقمياً وبالمجان، تزيد على كل ما كان يستطيع باحث الحصول عليه قبل ثلاثين عاماً فقط.

على رغم ذلك، أو ربما بسببه، ينتشر التضليل والكذب الصريح في السياسة والصحافة انتشاراً غير مسبوق. فسهولة الحصول على المعلومات، لا تعني دقة هذه الأخيرة ولا صدقها. عينة على ذلك السهولة الفائقة التي أورد فيها المرشح الجمهوري إلى الانتخابات الرئاسية الأميركية دونالد ترامب كمية من المغالطات أثناء مناظرته مع منافسته الديموقراطية هيلاري كلينتون، لم يكن في وسع مدير الحوار تصحيحها.

عدد من الصحف العالمية، بينها «واشنطن بوست» و «ذي غارديان»، أورد لوائح مفصلة بالمعلومات الخاطئة التي ذكرها ترامب أثناء المناظرة يوم الإثنين الماضي. وخصص معلقون مقالاتهم للتساؤل عن معنى وصول شخص يستسهل الكذب، في حال سوء النية، أو الوقوع في أخطاء فادحة، في حال حسنت، إلى البيت الأبيض. وصدور أرقام خاطئة تماماً وتصورات ساذجة ومسطحة عن رئيس أقوى دولة في العالم، سيسفر ارتباكاً متعدد المستوى، على الأقل في سياق التساؤل عما إذا كان الرئيس يتعمد الكذب أو أنه فعلاً لا يعرف عما يتكلم. وفي الحالتين ستكون العواقب وخيمة.

حالة ترامب تمثل ذروة احتقار الحقيقة والصدق بين سياسيي القرن الحادي والعشرين من صنف الشعبويين، اليمينيين واليساريين، إذ بات كل سياسي «غوبلز» صغير لا يتورع عن الكذب الفاضح في سبيل الترويج لموقفه وقضيته والحصول على أصوات الناخبين في عودة إلى أساليب دعائية تعرضت لانتكاسات مهمة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. بيد أننا نشهد بعثها وازدهارها.

وها هو ممثل النظام السوري في الأمم المتحدة بشار الجعفري، وبعد مداخلة طويلة حفلت بكل أنواع الخطابة الفارغة، يجيب بضحكة صفراء لا مبالية على صحافي سأله عما إذا كانت قوات الأسد قصفت مستشفيين في حلب، على رغم التوثيق الدقيق لحالات القصف. في عرف الجعفري وترامب ونجوم الكذب في عصر فيضان المعلومات، أن الحقيقة الموضوعية باتت أبعد عن متناول الباحث عنها مما كانت قبل عقود قليلة. لقد غرقت الحقيقة في تضليل مقصود ومصنع بحرفية عالية.

في نقاشه حول «الحقيقة والزيف» يقول برتراند راسل (في «بحث عن المعنى والحقيقة») أن لكل نظام من المعتقدات المتجانسة أن ينسب الحقيقة إلى نفسه. لكن هذا لا يجعل «الحقيقة» المذكورة أكثر ارتباطاً بالوقائع وأكثر صدقاً خارج منظومة المؤمنين بها.

واليوم يبدو أن الحقيقة باتت موزعة بين معسكرات تتبارى في إخفاء أجزاء وإظهار أخرى من الواقع ما دام المؤمنون جاهزين لتصديق كل ما يقول «الأخ الأكبر» وأصبحت الحقيقة تُصنع وفق الطلب والسعر.