إبان ما عرف بالربيع العربي كتبت أن مصر غير تونس المختلفة عن ليبيا٬ وجميعها غير سوريا٬ وثارت ثائرة البعض٬ وإن أدركوا مؤخًرا رجاحة ذلك٬ واليوم وبعد محاولة الانقلاب الفاشلة في تركيا نعود لنفس أزمة التعميم٬ والاصطفاف. في تركيا تقوم الدولة الآن بـ«انتقام»٬ وفي لحظة انفعال قال الرئيس إن محاولة الانقلاب الفاشلة «هدية من الله لتطهير الجيش».
وهذا ما يتم فعلاً٬ ما يعني المساس ببنية الدولة٬ وبلغ عدد المعتقلين والمفصولين ستين ألًفا٬ من العسكر٬ والقضاء٬ والتعليم٬ وسيأتي دور الإعلام٬ والخصوم السياسيين٬ فمسار الأحداث يشي بذلك. ورغم كل هذا نجد في منطقتنا جدلاً بين المثقفين٬ والإعلام٬ وكذلك الإسلاميين الحركيين٬ بين مؤيد لانتقام أنقرة٬ وبين معتبر أن فشل الانقلاب هو انتصار للديمقراطية٬ والعلمانية. والسؤال هنا: من يتعرضون للإقصاء في تركيا٬ وبحسب تصريحات الرئيس والمسؤولين٬ هم المحسوبون على الداعية فتح الله غولن٬ أي
الإسلاميين٬ وبالتالي سيتم إبدالهم بإسلاميين آخرين محسوبين على حزب العدالة والتنمية٬ حزب الرئيس٬ فما الذي تغير؟ وأي مستقبل ينتظر تركيا٬ وهناك أتراك لا يستهان بأعدادهم ليسوا إسلاميين٬ بالمعنى الحركي؟
وهل مقبول أن تقوم الحكومة٬ أي حكومة٬ بتغيير تركيبة المجتمع وفًقا لأهوائها كلما فازت بالانتخابات٬ أو بعد كل حدث؟ أم أن الأصل والمطلوب هو منهج جامع مفيد للدولة٬ أي دولة٬ يسهم بنموها وتطورها٬ وفق منطق الدولة؟ فاز الإخوان المسلمون بحكم مصر فأرادوا التغيير والإقصاء ثاني يوم٬ متجاهلين العقد الاجتماعي٬ ومكونات المجتمع الأخرى٬ خصوًصا من هم غير إسلاميين حركيين٬ فأين نقف؟ وما هو مفهوم الدولة بعد كل ذلك؟ ويكفي تأمل تجربة حل الجيش العراقي٬ وحل حزب البعث بشكل انتقامي٬ وليس وفق القوانين.
والأمر نفسه في الجدال حول العلمانية٬ والقول بانتصارها بعد فشل الانقلاب٬ فوسط الممجدين لعلمانية تركيا٬ والمهاجمين لها٬ السؤال هو: عن أي علمانية نتحدث؟ وهل العلمانية التي يتم الدفاع عنها في تركيا هي علمانية قومية أم علمانية ليبرالية؟ وبالطبع هناك فروق رئيسية بين العلمانيتين٬ ومهما بدا بينهما من تقاطع٬ فعلمانية تركيا القومية ليست علمانية أوروبا الليبرالية. فعن أي علمانية نتحدث٬ وأي انتصار ذاك الذي تحقق طالما أن الحكومة التركية تغير في تركيبة الجيش الحامي لعلمانيتها؟ هذا في حال كنت مناصًرا للعلمانية. وإذا كنت ضدها٬ وتعتقد أن إردوغان مجبور على مسايرة النظام العلماني إلى أن تتحقق له فرصة تطبيق نظامه الإسلامي٬ فلماذا تلوم فتح الله غولن إًذا٬ بحال كان هو فعلاً المخطط للانقلاب٬ فكلاهما إسلامي؟ بل وما رأيك بما فعله الغنوشي في تونس حين أعلن تخلي حزبه الإخواني عن الإسلام السياسي؟
الخلاصة أنه لا يوجد أبيض وأسود في قضايا المنطقة٬ والأكيد أن الحيرة ستستمر٬ ولأسباب عدة؛ أهمها غياب البحث الجاد٬ ونقص التعليم المتحرر من ضغوط التيارات٬ والأهواء٬ وفوق كل ذلك ضبابية مفهوم الدولة أمام هذه الأحزاب المنفلتة في منطقتنا.