صباح الأحد، الثلاثون من آب (أغسطس)، عند محطة القطارات الرئيسة في العاصمة المجرية بودابست، التقط المصوّر استفان زيروس صورة رجل وامرأة من اللاجئين السوريين يتعانقان ويتبادلان قبلة في خيمة صغيرة ينام خارجها أطفال ولاجئون آخرون، وسط الحقائب وأغراض المسافرين الآخرين.
عممت شبكات الإعلام والتواصل الاجتماعي الصورة، التي قال زيروس أنه لم يسأل الرجل والمرأة عن اسميهما ولا عن وجهتهما التي يرجّح أن تكون ألمانيا. وتولّت الصحف وضع عناوين تليق بالصورة من نوع «القبلة لا تعرف الحدود» («الغارديان») أو «الأمل على شفتي لاجئين» («ليكسبرس»). وركزت التغريدات على «تويتر» على «انتصار الحياة والحب» الذي تعكسه الصورة. وجرت المقارنة بينها وبين صور شهيرة من نهاية الحرب العالمية الثانية.
فضّل المصوّر تحويل اللقطة الى الأبيض والأسود بسبب ما قال أنه تنافر صارخ في الألوان المحيطة في شكل يختفي معه اللاجئان. بهذا التصرف، أضفى زيروس طابعاً كلاسيكياً على الصورة يضعها في صف اللوحات المرشّحة للبقاء طويلاً في الذاكرة.
ومقابل اللونين الأزرق والأحمر القويين في صورة الطفل إيلان الكردي على الشاطئ التركي، الذي انتشرت صورته بعد غرقه في رحلة الهروب الى اليونان، وأشارا الى «العصر» الراهن الذي يتفرج أهله على موت أطفال يشبهون أطفالهم بلا مبالاة، جاء الأسود والأبيض ليقولا في صورة اللاجئين المتعانقين شيئاً مناقضاً: التمسك بالحب كبرهان أخير على البقاء على قيد الحياة، ولو تحت خيمة لجوء.
الضلع الناقص في مثلّث صور النكبة السورية في طورها الحالي، تسدّه صورة من موقع «شاهد عيان حلب» لوعاء من الحلوى مرميّ على الأرض، وقد تطايرت محتوياته بعد إلقاء مروحية تابعة لجيش النظام السوري برميلاً متفجراً على تجمّع لمن تبقى من أهالي المدينة يحاولون إحياء إجواء عيد الأضحى بما تيسّر، فجاءتهم المروحية بحمولتها القاتلة لتحيل مسعاهم هذا، كما أجسادهم، أشلاء مبعثرة تختلط مع الحلوى الملقاة على الأرض بين دواليب العربات المحطّمة. لا دماء ولا جثث في الصورة. قطع من الحلوى على الأرض تختصر معاناة وصبراً وتمسكاً بالحياة وتنتهي بالانكسار.
الحياة المستحيلة في الوطن في صورة طبق الحلوى في حلب ثم محاولة اللاجئين النجاة وخسارتهم أطفالهم، محرّكهم الأول لركوب أخطار البحر وأيلان رمز الخسارة، أثناء تلك المحاولة، ثم العناق في محطة القطارات في بودابست في خيمة صغيرة. ثلاث صور ربما تقول أشياء كثيرة عن عمق النكبة التي ألمّت بالسوريين، والتي سترافقهم آثارها طوال عقود مقبلة، وستعيد رسم سورية وشعبها والمنطقة المحيطة بها.
أين تتراكم هذه الآلام التي لا نهاية لها، وأين تنبت بذورها؟ لا كرم الألمان والنمساويين الذين استقبلوا اللاجئين النازلين من القطارات يكفي، ولا لؤم الأقارب والأشقاء سيُنسى.
نحن أمام نكبة لم يعرف مثيلاً لها التاريخ العربي، وتفوق خطورتها ما جرى في فلسطين عام 1948. وتقترب في ضخامتها وهولها من دمار مجتمع آخر هو مجتمع اليهود الأوروبيين على أيدي النازية. هؤلاء الذين أوحى مصيرهم للمغني ليونارد كوهين، كتابة أغنيته «راقصيني الى نهاية الحب»، والتي تكاد تطابق حرفياً صورة اللاجئين السوريين المتعانقين في محطة بودابست، حين يقول: «ارفعي الخيمة ملجأ الآن… على رغم نسيجها الممزق. وراقصيني الى أن ينتهي الحب».