كأننا ما زلنا نكتب المقالة الأولى التي نشرنا عام 1975. بل كأننا نكتب المقالة ذاتها منذ أربعين عاماً!
لو سألت معظم اللبنانيين عما ينتظرونه من العام 2015، لقالوا على الأرجح «لا شيء!» انه عام يضاف بالعوامل ذاتها، والوقائع ذاتها والأدوار ذاتها إلى الأعوام الماضية، المتراكمة بدمائها وجنونها وأمواتها وخرابها والتي من الممكن ان تكون بدأت في 1969 أو «رسمياً» (بالمجزرة) عام 1975. انها أعوام متصلة، بعناوين مختلفة وبُهدَن محددة، لا تفصل بينها سوى رؤوسها: كل عام وانتم بخير!» «Happy New Year». كأن رأس السنة ، كما خبرنا وعلمنا، على امتداد أكثر من أربعة عقود هو رأس «جليد» مخيف، للسنة المقبلة. قلنا ها هو الربيع العربي: الاستثناء. بدأ في لبنان بعد اغتيال الرئيس الشهيد الكبير رفيق الحريري. وقلنا ها هي الجماهير بسلميتها وأعلامها اللبنانية وشعاراتها وميادينها تنتفض «لا للوصاية السورية»، لا لكل وصاية! لا للحروب «كفى»! لا للكانتونات المذهبية، لا للميليشيات، نعم! للعدالة. الدولة. الجيش. الحرية. الديموقراطية. أوليس هذا ما قامت عليه انتفاضات الربيع العربي؟ لكنه كان هناك السلاح الكانتوني، والتآمر الدولي، المرتبط بالوصايتين ليصرخ بوجود هنا «لا! لن يكون عام 2005 مختلفاً عن 1975 و1977 و1982 و1989 و2000 و2005، لا! ان من يريدون ان يفصلوا بين هذه التواريخ الموصولة بالدم، والذل والتهجير والخوف واللادولة والسيادة…
هم عملاء! وارتد سلاح الوصايتين و»شكراً» سوريا شعباً ونظاماً وسلطة على هؤلاء «الثائرين»! «اسحقوا هذه الأصوات»… لأنهم وصلوا الأمس باليوم وبالغد! ثم قام الربيع العربي بناسه وأعلامه وآماله في الحرية وبحقوق الانسان والديموقراطية وهاج وماج في الميادين، وأسقط رئيسين (بن علي، ومبارك في أقل من اسبوعين… وامتد إلى ليبيا (واسقط «قائدها» ثم إلى اليمن وسوريا… وكاد ينتصر على هذه الطغاة! ستوب! كان الربيع كابوساً على الغرب. واسرائيل وروسيا… وايران. ستوب! ممنوع أن يقرر الشعب العربي مصيره!
ستوب! فليرجع كل شيء إلى قواعده سالماً! 2011 و2013 و2014 فلتعد هذه التواريخ إلى أصفارها. لا شيء. قامت بربرية الأنظمة ومشتقاتها وشبيحتها بهجوم مضاد: تحويل الثورة السلمية إلى حرب طائفية. إلى حرب مسلحة. إلى حروب عصابات. وكان على الغرب (ووراءَه اسرائيل وايران كحليفتين كما في العراق)، ان يهشم كل شيء: ان يعطي الوقت لهذه الأنظمة ومن وراءها لاستنبات ميليشياتها وحرسها الجمهوري والثوري ومن ثم ما يبررها: حركات دينية، أصولية، سلفية، تكفيرية… وكان بداية عودة كل شيء إلى ما كانت عليه أيام الأنظمة البائدة. دمروا كل شيء. المدن. القرى. ارتكبوا المجازر. مارسوا الارهاب. الترهيب. عاد كل شيء إلى نقطة اللارجوع: «داعش» (كطالبان، والقاعدة وحركة شاكر العبسي في نهر البارد) افلتت من سجونها واقفاصها ومُوّلت وحولت حركة «التاريخ» الجديدة إلى «عدم التاريخ» أو «تاريخية العدم». وها هي الدورات الدموية التي بدأت في 1982 في حلب وحماة وحمص تستعاد. وها هي الدورات الدموية التي بدأت في لبنان عام 1975 حتى 1990 تستعاد. وها هي الحروب القديمة بين الطوائف والحروب الألفية المذهبية تستنبش متمثلة بين الصراع «السياسي» السني الشيعي. من صراع «المذاهب» في لبنان إلى صراع «المذاهب» في العالم انها «النازية» الجديدة. إرتعشوا إرتعبوا خوفاً. لكن ومتى غاب «الداعشيون» على امتداد الأربعين سنة الماضية: الأنظمة العربية الثورية كانت «داعشية». اسرائيل داعشية. أميركا في العراق داعشية. فرنسا في رواندا داعشية. النظام البعثي السوري داعشي. البعثي العراقي داعشي. الليبي داعشي. اليمني داعشي. القاعدة داعشية. طالبان داعشية. ايران داعشية. الحرس الثوري داعشي. فيلق القدس داعشي. الوصاية السورية في لبنان داعشية. اسرائيل في فلسطين ولبنان والجولان داعشية! الحوثية داعشية . كل هذه «الدواعش» المحمية بشعار «الدولة» والأنظمة المسخ، هل تنجب سوى شبيهاتها» لا! (نجت تونس ومصر) انها الكائنات التي كانت تحفظها الأنظمة (من أميركا واسرائيل وسوريا وايران) في محفوظاتها! فلتطلع هذه الحشرات إلى السطح، وتخلط كل الأوراق ولتكن «الظواهر» المخيفة التي تسعى إلى تقسيم الأمة وتحويلها «امارات» وكانتونات شبيهة بما فعلت الميليشيات في لبنان في السبعينات وما فعل حزب الله الإيراني بعدها. وبدلاً من ان يكون الربيع اللبناني النموذح صارت حروب الطوائف في زمن الميليشيات النموذج. سحقت عجائب الربيع العربي التي بدأت في درعا وبنغازي (وقبلهما بيروت) واليمن. سحقت وهمشت لتبقى الصراعات بين «الدواعش»: بقايا الأنظمة البائدة وتوابع ايران والحركات الارهابية، التخوينية، التكفيرية: بات الصراع ثنائياً، بالأطراف التي ارتفعت على أصوات الربيع العربي الأولى!
إذاً، عودة إلى القديم! رائع! عودة إلى «السقيفة«. رائع! عودة إلى صراعات الماضي في الحاضر. رائع! وهكذا، ربط «داعشيو» الأنظمة، وجيوشها، التواريخ الدامية ببعضها تواريخ القتل والكراهية والتقسيم والالغاء والمجازر القديمة، بكل هذه الحروب الجديدة. حروب قديمة بسحن جديدة… حروب قديمة بأسلحة جديدة. حروب بربرية بهالات دينية! (نتذكر حروب الكاثوليك والبروتستانت في أوروبا والفييتنامين والكوريتين والحرب الباردة بين الستالينية والغرب!). كل شيء انقض ولم ينقضِ. كأن الأرض المستديرة تعيد كل شيء إلى أمكنته الأولى!
وعلى هذا الأساس بات من الصعب أن نتذكر كل حرب على حدة، أو كل مجزرة على حدة، امتزجت التواريخ باللاتواريخ، الشواهد بالشواهد، السفاحون بالسفاحين، القتلى بالقتلى، الطغاة بالطغاة: صاروا واحداً، اليوم. صاروا تاريخاً بلا رقم اليوم!
حتى عندما نتذكر اقرب المواقيت عام 2013 أو عام 2014 أو قبلهما بكثير، لا يمكننا «ترويض» ذاكرتنا على التمييز بينها: التاريخ يعيد نفسه؟ بل اعادوه إلى نفسه. فليتقاعد الزمن. فليكن مُقعَداً. أصمّ. اعمى. أبكم. يغتذي بالموتى وبالخراب: ولو شرّحوا الزمن الممتد من كل تلك المساحات الألفية، لما وجدوا غير الدم والطغيان والجثث والجثامين: ومن قال ان للدم دائماً فئة، أو نوعاً! كل الدماء من فئة واحدة وكل الموتى من ميت واحد! انه العصف الذي تتغير «أسماؤه» ليرفع نعوت «اللعنة»!
[و2015/ 12
عام 2014، عام داعش! والنصرة امتدا في العراق وسوريا (والحوثيون الداعشيون الفرس في اليمن، ثم وصلوا إلى لبنان لأن دواعش حزب الله انخرطت في الحرب السورية بأمر ايران دعماً للنظام الداعشي البعثي (المكفّر البعث في العراق، والمبارك في سوريا!).
عام سقوط الجيش العراقي في الموصل وإدلب . عام انهيار الجيش السوري (قتل أكثر من نصفه على امتداد اربع سنوات)، لكنه عام استمرار نزف التهجير من سوريا؛ عام تهجير المسيحيين من العراق. عام الكانتونات المذهبية الكبرى: عام الدولة الاسلامية التي وسعت حدودها من العراق وسوريا إلى لبنان (لم تمس اسرائيل لا بالكلمة ولا بالرصاص ولا بالاتهام!).
وعام 2014، عام استمرار تدمير الدولة اللبنانية: مصادرة مجلس النواب للحؤول دون انتخاب رئيس للجمهورية. دولة بلا رئيس. الدولة الوحيدة في العالم بلا رئيس جمهورية. الحكومة معطوبة بغياب الرئيس. الفساد مستشر. لكن تطل «بوادر الحوار»، بين «حزب الله» و»المستقبل». حوار وسط كل هذه التراكمات والاثقال والانجازات التخريبية التي حققها حزب ايران في سوريا ولبنان. لكنه عام استمرار المحكمة الدولية. وعام انكشاف دور النظام السوري في مقتل الرئيس الشهيد رفيق الحريري، بعد ان انكشف دور حزب الله عبر المتهمين الأربعة بالجريمة. وهو عام اضاء وسط هذه العتمة، بكشف فضائح الفساد الغذائي بقيادة الوزير ابو فاعور: يقتلون اللبنانيين بالرصاص والسيارات المفخخة ثم يقتلونه بطعامهم المسموم! بمعنى آخر: لا يتميز عام 2014 عن الأعوام السابقة بشيء يذكر. أو ربما بشيء لا يذكر. وانسحاباً، عمومياً، لا يتميز هذه الأعوام الأخيرة عن أزمنة الميليشيات القديمة، سوى ان ميليشيا واحدة استفردت اليوم وورثت كل هذه الميليشيات: الزمن التقسيمي ما زال موجوداً بأمكنته، وشواهده وفتنه وعفونته المذهبية!
[الأسئلة
وهنا تحديداً، نطرح السؤال على ذاكرتنا أولاً، وعلى أنفسنا: هل سيكون عام 2015 مختلفاً؟ فاصلاً؟ بكل اسف نجيب: لا! (سوى تفاصيل قد تذكر أو لا تذكر هدنة قد تنفجر أو لا تنفجر) سوى حرب كامنة مؤجلة بين اسرائيل وحزب الله (والأرجح ان تصبح مزارع شبعا كهضبة الجولان: اسرائيلية الاحتلال، لبنانية الهوية، سورية الحدود!) لكي تبرر ميليشيات حزب الله استمرار رفع شعار المقاومة للاستمرار في الانقضاض على الدولة.
العام 2015؟ وماذا ستقول في العام 2015؟ وماذا تنتظر منه؟ انه الأعوام السابقة كلها يحبل بها كما ربما سيحبل عام 2016 بما حبل به عام 2015… وهلّم جرا:
1) قد تندحر الدولة الاسلامية في العراق، لكنها ستبقى مُجذرة في سوريا… وربما في لبنان.
2) سيبقى مقاتلو حزب الله بإرادة ايرانية في سوريا.
3) قد تتوسع دائرة داعش والنصرة في القلمون وعرسال إلى مناطق أخرى (ولا اتمنى ان تبقى مسألة تحرير العسكريين معلقة!).
4) سيزداد النظام السوري ضعفاً، وجيشه اهتراء، وسيكتسب «داعش» والنصرة (وقد تندلع الحرب بينهما) امتداد في سوريا… على حساب قوى الربيع العربي الأصلية (الجيش الحر وخلفياته المدنية).
5) سيصيب كانتونات الحزب في بيئاته «المحضونة» منه بالارهاب والفساد والشعارات التافهة، تصدع ما… لكن من الصعب ان يصل هذا التصدع إلى مراحل الانهيار «الظاهر»!
6) قد يزداد الجيش اللبناني قوة وتسليحاً والتفافاً من الشعب لكن اذا كان له ان يزيل شوائب بعض اختراقاته. لكنه، على الرغم من كل شيء، سيصير وإلى حد ما، (اذا لم ترسم مؤامرة ضده!) الند لحضور «ميليشيات» الحزب وسلاحه وسيكتشف اللبنانيون، ان الجيش اذا ما ارتبط بعقيدته الوطنية، السيادية، الديموقراطية، قادر على التصدي للارهاب، ولكافة أنواع الارهاب «الميليشيوية» المعروفة! انها «أحداس؟»! ربما! لكنها وقائع ايضاً!
7) من شروط تطوير امكانيات الجيش عتاداً وسلاحاً ان يتجاوز الدور الذي يريده له حزب الله واسرائيل وايران (الأمن المحدود) إلى حماية الحدود كلها من الجنوب إلى الشمال إلى البقاع!
8) ستستمر ايران في التباهي بهيمنتها على لبنان والعراق و(حتى اليمن) عبر «جيوشها الشعبية» اي عبر جيوشها المذهبية، ولن يجرؤ حزب الله حتى على مجرد الاستنكار أو النفي أو التوضيح: فهو جيشها الشعبي في لبنان: جيش شعبي إيراني في لبنان!
9) سيعود الحزب إلى وتائره الموتورة إذا فشل حواره مع «المستقبل» باتهام الأخير بافشاله مع اتهام المملكة السعودية بذلك!
10) سيكمل الحوار… متجنباً ما يجعله حواراً شاملاً حول كل القضايا المطروحة…
11) لا نجد اشارات مشجعة إلى ان الشغور الرئاسي سيمتلئ.
[الموت
إن كل هذه الظواهر والتواريخ والأحداث اليوم، والتي يمكن البحث عن جذورها وتماثلاتها في نهاية التسعينات ومنتصف السبعينات وحتى هذه اللحظة يجمعها الموت. تكرار الموت. تكرار القتل. تكرار احتقار النفوس البشرية والانسان بوجوده وأمكنته ومشاعره وكرامته واراداته. الموت. الذي الفنا حضوره معنا منذ اربعين عاماً، وصار «رفيقنا» اليومي في منازلنا. وفي الساحات، وفي الشوارع، وفي الميادين، والمدن والقرى… الموت الذي كان «حدثاً» شعورياً، وصار من نثريات الاخبار، ومن تفاصيلها «المملة». كتب الصحافي والمفكر الفرنسي الكبير جان دانيال في مقالته التي نشرت في العدد الأخير من «لونويل اوبسراتور»: «ان ما يجري اليوم في العالم جعل الموت أليفاً! لكن هذا ما قلناه وقاله اللبنانيون والعرب منذ أكثر من 40 عاماً! انه الموت ظل حولنا: اذا كنت وحدك فالموت هو الثاني. واذا كنتما اثنين فالموت هو الثالث… وهكذا دواليك. هذا ما كتبناه في الثمانينات. وهذا يعني اننا نزعنا عن الموت «استثنائيته« وحتى طقوسه الفردية والجماعية والدينية، وتَفَنَاه. تفهنا الموت صار تفاهة. أو «قدراً» مبتذلاً. أو «لعنة» مباركة. نعد الموتى والقتلى بالعشرات والمئات والألوف كأنما نعد المواشي المسوقة إلى الذبح. كأننا نعد أرقام البورصة المالية. من موت إلى موت. هكذا : من موت الناس إلى موت الأمكنة. (والأمكنة تموت مع ناسها) إلى موت المنازل. إلى موت الطبيعة. إلى موت الفصول. إلى موت المياة (المياه تموت مع أمواتها!) إلى موت الأحلام. والأحلام كالأجساد والأمكنة والكوابيس تموت أيضاً: تيبس في عروقها وآمالها وأشجارها ونهاراتها ولياليها! كأن باتت المسافة بين الموت والحياة ملغاة. لا فارق ! الموتى يعيشون في الأحياء والأحياء يعيشون في الموتى. حتى خبر الموت مات في الموت. كأنه خبر الأشياء. او الأمتعة. فلِمَ لا نخلط بين الموتى والأحياء والاطفال والشيوخ. الرجال والنساء. اعدم داعش 1889 مدنياً في 2014! قتل بشار الأسد حتى الآن (مع داعش وحزب الله) اكثر من 250 ألف سوري… أف! مع هذا بتنا نبحث عن الموتى بالأرقام. هنا صحيحة وهنا غير صحيحة. بل نخلط بين موتى السبعينات وموتى 2013 و2014 وقبلهما 1982 (مجازر حلب وحماة).. حتى الأرقام ماتت. صارت بلا عدد. صارت اشكالاً هيروغليفية او سينسكريتية. مجردة، بلا اسماء. أرقام بلا اسماء. أسماء بلا أرقام. اسماء وأرقام بلا وجوه. بلا هويات. بلا قسمات… كأنه العدم المطلق! صار الموت شكلاً من أشكال العبثية. شكلاً من أشكال الحكايات الناقصة!
هل سيتغير عام 2015؟ لا! انه رقم بلا حساب. بلا رصيد. اسم بلا تاريخ. وتاريخ غير محدد، ضارب في عمق التراجيديا التي صنعها الطغاة منذ أكثر من نصف قرن. تتابع بملاحمها المجنونة، إلى اللاشيء!
لكن لم كل هذا السواد؟ انه سواد المنتظرين الأبديين؟ انه السواد الذي يمكن ان يفكك اذا كان للناس ان تكسر قواعد هذه القدرية المتشابكة ان تعود إلى مسالكها الأولى، في الانتفاضة على «ثقافة الموت» وارثها وتبحث عن الحياة… بأسلحة الحياة. بأسلحة الحرية. والخلاص. أهذا ممكن؟
الزمن الملغى.. قد يتململ في عزلته، ويضيء في عيون الشعوب العربية التي ان لم تستسلم، فهي قادرة، على صناعة قيامتها الجديدة!
بول شاوول