هناك واحد من أمرين: إما أنّ المواجهة العسكرية المباشرة بين «الكبار» في سماء سوريا صارت على الأبواب، ولا تحتاج سوى الى إشعال نار في طائرة أسدية! وإما أنّ التصعيد الروسي الكلامي المشفوع بإجراء يعتبر أي «أجسام طائرة في منطقة عمل قواتنا أهدافاً» على ما أعلنت موسكو أمس، ليس سوى تكثيف لعملية استدراج الأميركيين الى البحث «الجدّي» في أمور ثنائية كثيرة، منها سوريا؟
الاحتمال الأول تنقصه الوجاهة! وتنفيه بديهيات العلاقات ومصالح الدول المعنية.. مثلما ينفيه غياب المبرّر العملي والمنطقي الذي يجعل من المواجهة المباشرة حتمية: لا الأميركيين في صدد محاربة أحد من أجل سوريا. ولا الروس اختصروا واختزلوا قضاياهم و»كرامتهم» ولا نفوذهم ومصالحهم، بالكيان السوري وبقايا سلطة الرئيس الأسبق بشار الأسد!
حتى في ذروة الحرب الباردة، «ومعاركها» الحارّة الممتدة من أميركا الجنوبية الى جنوب شرق آسيا مروراً بالشرق الأوسط وبعض أفريقيا.. لم يحصل الاصطدام المباشر بين «الناتو» والأميركيين من جهة و»وارسو» والسوفيات من جهة ثانية.. بل ظلّ سيناريو «اليوم الأخير» موضوعاً على طرف الخرائط العسكرية وليس في صلبها، طالما أن الوسائط الإقليمية منخرطة في مواجهات وحروب تقليدية تكفي في ذاتها لترجمة أبعاد النزاع الشامل بين المعسكرَين الغربي والشرقي!
ما هو واضح في المرحلة الراهنة، هو أنّ الروس ازدادوا توتراً بعدما خابت رهاناتهم على أداء أميركي جديد يكرّس ما تراكم في مرحلة أوباما! وبعد أن أظهرت إدارة دونالد ترامب تغييراً في أدائها وليس في استراتيجيتها. وراحت الى تأكيد جديّتها في محاربة الإرهاب وليس المناورة تحت سقف هذا الشعار.. وبعد أن أوضحت لموسكو أنها غير مستعدة لشراء ورقة التخلي عن الأسد في مقابل أي سعر! وإن ظروف مقاربة العلاقات بين الطرفين، أكان من باب العقوبات (المستمرة والمُضاف عليها) أو من باب «التعاون لحل مشاكل العالم»، لم تنضج بعد! وبالتأكيد، ليست سوريا ولا مصير الأسد مبرراً كافياً لافتراض العكس، أو لدفعها الى الهرولة في ساحة لا تتحكم بها تماماً!
والواضح أكثر، هو أن موسكو تستمر في أداء آتٍ من مرحلة أوباما: تستمر في الحكي عن تسوية في سوريا، لكنها تتصرف وفق حسابات حسم عسكري رأته سابقاً ولا تزال تراه ممكناً.. أو على الأقل، محاولة انتاج ما يكفي من وقائع ميدانية تسمح لها بفرض «الحلّ» الذي يلائم أهدافها ومصالحها!
لكن ما يحصل منذ فترة، هو أنها تصطدم في «ربع الساعة الأخير» بمعطى آخر: الأميركيون ليسوا مستعدين لإنزال جيشهم في سوريا مثلما فعلوا في أفغانستان والعراق، لكنهم في المقابل غير مستعدين للبقاء متفرجين على تبلور وضع حاسم تكون لإيران فيه حيثية كبرى. أو تستخدمه موسكو في سياقات متصاعدة على طريق هدفها الأثير بإعادة إنتاج ثنائية قطبية.. عدا عن أن هناك «مستجدات» في الأداء الأميركي تأخذ في الاعتبار إعادة إحياء الروابط الاستراتيجية مع مجموع عربي وإسلامي أكثري لا يمكنه تحمل نكبة سورية أفظع من النكبة الفلسطينية!
قبل ذلك، في مجمله، هناك تفصيل غريب: موسكو تعطي لنفسها الحق في رعاية «حلفائها» وحمايتهم في سوريا، والمشاركة الجوية المباشرة في تغطية معاركهم! وصولاً الى التعرض لقوى، أعلنت واشنطن أنها تحت عباءتها أكان في الجنوب السوري أم في محيط الرقّة! في حين ترفض وتستهجن أن تُمارس واشنطن حقها المقابل، في حماية ورعاية حلفائها ورعايتهم! ومعاقبة من يتطاول على قرارها في شأنهم!
لن يتدحرج الأميركيون والروس الى نزاع مباشر. لكن الأهم من هذه البديهة هو أن واشنطن لن تُستدرج في سوريا الى ابتزاز سياسي روسي أكبر وأشمل: العلاقات بين «الأمتين» بما فيها قضية العقوبات، مسألة أكبر من الخريطة السورية و»مصير» الأسد.. والله أعلم!