طبيعي أن يشعر النظام السوري بأن الموضوع «مسألة وقت» لا أكثر، وسيعود إلى موقعه في البيت العربي؛ إذ يعتبر بشار الأسد أن غياب بلاده عن مقعدها في قمة تونس، التي عقدت في 31 آذار (مارس) الماضي، يُعد تجاهلاً لا يليق بما أحرزه من تقدم عسكري على الأرض، يستدعي بالضرورة استرداداً تدريجياً لما فقده سياسياً، سواء عربياً أم دولياً، جراء استمرار سريان قرار جامعة الدول العربية، 12 تشرين الثاني (نوفمبر) 2011، تجميد مقعد سورية، وفرض عقوبات سياسية واقتصادية عليها، بعد نحو ثمانية أشهر من بدء الاضطرابات السورية، ولجوء بشار الأسد للخيار العسكري لقمع معارضيه. ولطالما حاول نظام بشار فتح نفق يمر منه إلى الداخل العربي. وفي ذلك لم تفلح زيارة الرئيس السوداني عمر البشير إلى دمشق، 16 كانون الأول (ديسمبر) 2018، ولا شفع غيرها؛ إذ أقدمت دولة الإمارات العربية المتحدة على فتح سفارتها في دمشق، في 27 ديسمبر 2018. وبعد يوم واحد طيَّرت وكالات الأنباء ما أعلنته وزارة الخارجية البحرينية من «استمرار» العمل في سفارتها في دمشق، وكذلك في السفارة السورية في المنامة، وأن الرحلات الجوية بين البلدين «قائمة من دون انقطاع». وكانت سلطنة عمان أبقت على علاقاتها الديبلوماسية مع دمشق، وعارضت الكويت تسليح المعارضة وقادت حملة جمع تبرعات إنسانية للشعب السوري تحت مظلة الأمم المتحدة. وأيقن النظام السوري انسداد الأفق أمامه إلى قمة تونس، حتى أن اجتماع الدورة 151 لوزراء الخارجية العرب، المعني بالتحضير لقمة تونس، كان قد اختتم أعماله في القاهرة في السادس من مارس الماضي، من دون التطرق إلى عودة سورية. حسب ما صرَّح به الأمين العام لجامعة الدول العربية أحمد أبوالغيط. وعليه، غاب نظام بشار عن قمة تونس، وإن لم تغب الأزمة السورية؛ فقد أكد «إعلان تونس»: «ضرورة التوصل إلى تسوية سياسية تُنهي الأزمة القائمة في سورية، استناداً إلى مسار جنيف، وبيانات مجموعة الدعم الدولية لسورية، وقرارات مجلس الأمن ذات الصلة، بما يضع حداً لمعاناة الشعب السوري الشقيق ويحقق تطلعاته في العيش في أمن وسلام، ويحافظ على وحدة سورية وسيادتها واستقلالها». وفي مواجهة الاعتراف الأميركي الجائر بسيادة إسرائيل على مرتفعات الجولان، أكد «إعلان تونس» أن: «الجولان أرض سورية محتلة، وفق القانون الدولي وقرارات الأمم المتحدة ومجلس الأمن وباعتراف المجتمع الدولي».
وعلى هذا النحو، فصلت قمة تونس، عن حق وحكمة، بين الحقوق المشروعة للشعب السوري الشقيق، ورغبة نظام بشار في القفز داخل البيت العربي بشروط تتجاهل مضمون وروح الحقوق الإنسانية ذاتها التي دفع الشعب السوري ثمناً باهظاً جراء تمسكه بها منذ انتفض عام 2011.
ولا تشير علينا دروس التاريخ المقارن إلا بأن بشار «المنتشي» بانتصاره العسكري الواضح والسياسي المحدود، سيندفع إلى مزيد من التشبث بالسلطة، متخذاً من عملية إعمار بلاده المدمرة «حصان طروادة»، ينطلق به داخل محيطه العربي، بل وفي عمق المجتمع الدولي، متاجراً بآلام الشعب السوري إلى آخر رمق. وبثبات موقف القمة العربية، والمجتمع الدولي، تتسع الفواصل وتعلو الحواجز أمام «أسد طروادة» إلى آفاق بعيدة شاهقة تعانق التطلعات المشروعة للشعب السوري الشقيق في حياة كريمة حرة. ما يجعل الانحياز للشعب السوري لا يصب في رصيد بشار، ولا يتيح الفرصة أمام «أسد طروادة» للقفز على الشرعية الدولية. وواقع الأمر أن «أسد طروادة» يُخطئ لو راهن على أن تخفيف الوجود العسكري الأميركي في بلاده، سيتبعه انسحاب سياسي مماثل، لتخلو الساحة لروسيا وإيران. مثلما يتورط أكثر لو شارك إيران الانتظار توقعاً لاحتمال عدم التمديد لترامب لفترة رئاسية ثانية بعد نحو عامين. وخطأ «أسد طروادة» وارد أيضاً فيما لو توقع أن تمتد إلى إعمار «سورية بشار» ما حصلت عليه الأمم المتحدة من وعود المانحين في مؤتمر «دعم مستقبل سورية والمنطقة»، الذي اختُتمت أعماله في 14 مارس الماضي في بروكسل؛ فكلها مساعدات إنسانية، (نحو سبعة بلايين دولار)، لضحايا نظام بشار، في الداخل والخارج، وليست لبناء ما هدمته «شهوة» بشار للسلطة.
وكانت لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا، قدرت كُلفة إعادة إعمار سورية بنحو 400 بليون دولار، 65 في المئة منها لقطاع الإسكان وحده، بحسب بيانات صادرة عن صندوق النقد الدولي. وفي الطريق إلى هذه البلايين الضخمة، سيواجه «أسد طروادة» عقبات شتى؛ فالاتحاد الأوروبي لن يشارك في إعمار سورية ما لم يتحقق الحل السياسي وبرعاية أممية. وأميركا ترامب، بشعبويته، تنفض يدها من الإنفاق الخارجي. وعربياً؛ فإن معاناة قطر مؤكدة جراء المقاطعة «الرباعية» المفروضة عليها من جانب السعودية ومصر والإمارات والبحرين. وإعادة الإمارات فتح سفارتها في دمشق بعد نحو سبع سنوات من الإغلاق وقطع العلاقات لا تكفي لما يخطط له «أسد طروادة»، ومصر ليس لديها ما تمنحه لسورية إلا العمال والشركات المنفذة من دون أن تنفق أموالاً على الأرض السورية. وللتدليل على إدراك السعودية لمخطط «أسد طروادة»، أُذكرك بأن بشار كان انتقد ما تعهدت به السعودية، في مؤتمر وزاري للتحالف الدولي عُقد في بروكسل في تموز (يوليو) 2018، وهو عبارة عن دعم قدره 100 مليون دولار لصالح «مشاريع استعادة مصادر الرزق والخدمات الأساسية»، ينفذها التحالف الدولي بقيادة أميركا، في مناطق شمال شرق سورية، بعد تحريرها من تنظيم داعش الإرهابي. وعليه فإن مشاركة سعودية فاعلة وكافية لا سبيل إليها ما لم يتحرك «أسد طروادة» في اتجاه مغاير لأطماعه متجهاً إلى تلبية استحقاقات الحل السياسي الأممي بتفسيره الصحيح، والبحرين التي أعادت فتح سفارتها في دمشق لا تكفي أبداً، ولا الكويت، التي كانت أعلنت عن «سعادتها» لو عادت سورية إلى جامعة الدول العربية. فحقيقة الأمر أن السعادة ستكون جماعية لو عادت سورية على أسس إنسانية تحمل منطقاً سياسياً يقبله المجتمع الدولي. أما حلفاء بشار في إيران وروسيا ففي حال صعب. فمعاناة إيران شديدة جراء العقوبات الاقتصادية الأميركية، ولا تصدق ما يردده الرئيس الإيراني حسن روحاني من أن بلاده «تلتف على العقوبات الأميركية». فقد انخفض تصدير النفط الإيراني بمقدار 1.5 مليون برميل يومياً بحسب «أوبك» بعد أن وقَّع ترامب حزمتين من العقوبات على إيران في 2018 عقب انسحابه من الاتفاق النووي (5+1) في أيار (مايو) من العام نفسه. أما الدب الروسي فلن يستطيع تنفيذ تعهداته المعلنة حول «دور قوي» له في إعادة إعمار سورية، وهو الذي أنفق 1.2 بليون دولار سنوياً، وفق تقرير نشره أخيراً «معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى»، في مشاركته العسكرية على الأرض السورية منذ 30 أيلول (سبتمبر) 2015 بطلب من بشار الأسد. فضلاً عن ضغوط العقوبات الأميركية المفروضة عليه، حتى أن وزارة التنمية الاقتصادية الروسية كانت قد أعلنت أواخر كانون الأول (ديسمبر) 2018 وبوضوح أن مطلع العام 2019 سيكون «المرحلة الأكثر تعقيداً للاقتصاد الروسي».
على هذا النحو ترتفع الحواجز أمام «أسد طروادة»؛ وإن ظل متمسكاً بميوعة قرار مجلس الأمن رقم 2254 الصادر في 18 ديسمبر 2015، كونه لم ينص صراحة على مستقبله ودوره في عملية الانتقال السياسي؛ مستنداً إلى تشديد القرار على حق الشعب السوري في تقرير مصيره بنفسه. ليحدثنا التاريخ أن كثيراً ما أنقذت الشعوب جلاديها، مثلما أتاحت ميوعة صيغ قرارات الشرعية الدولية فرص إهدارها.